صندوق النقد الدولي يحذر من النمو المتسارع للديون العالمية: لإجراءات عاجلة تكبح نموها

  • 2024-10-29
  • 11:00

صندوق النقد الدولي يحذر من النمو المتسارع للديون العالمية: لإجراءات عاجلة تكبح نموها

  • إعداد: سوليكا علاء الدين

حذّر صندوق النقد الدولي في تقريره الأخير "الراصد المالي: وضع حد لنمو الدين العام"، من أن نمو الديون العامة العالمية تمثل تهديداً وجودياً للاقتصاد العالمي. وتوقع التقرير أن تتجاوز هذه الديون 100 تريليون دولار في العام 2024، مما يستدعي اتخاذ إجراءات عاجلة لكبح جماح هذا النمو المتسارع.

بعد تراجع مؤقت في عامي 2021 و2022، استأنفت الديون مسارها التصاعدي بقوة، متجهة نحو مستوى قياسي تجاوز 100 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي مع نهاية العام 2030، وذلك بقيادة أكبر اقتصادين في العالم: الصين والولايات المتحدة. وعلى الرغم من التوقعات بتثبيت أو تخفيض الديون في ثلثي دول العالم بحلول العام 2029، فإن مستويات الديون تبقى مرتفعة بشكل ملحوظ مقارنة بما كانت عليه قبل جائحة "كوفيد-19". وتشير البيانات إلى أن الدول الأكثر مديونية تتحمل عبئاً ثقيلاً من الديون يتجاوز نصف إجمالي الديون العالمية ويعادل نحو ثلثي إجمالي الناتج المحلي العالمي، ويهدد هذا الوضع بتفاقم التحديات الاقتصادية التي تواجهها الدول، في ظل الأزمات المستمرة.

 

مخاطر الدين: التوقعات تتجاوز الواقع

 

تواجه آفاق المالية العامة في العديد من الدول صعوبات متزايدةً تتجاوز التوقعات، نتيجة لارتفاع الضغوط على الإنفاق الحكومي، والتوقعات المبالغ بها لمستويات الدين، وازدياد الدين غير المحدد. وأظهرت التحليلات أن التقديرات الأولية لمستويات الدين تميل إلى التقليل من شأن المخاطر، مما يخلق فجوة كبيرة بين التوقعات والمستويات الفعلية للديون، إذ من المتوقع أن تتجاوز نسب الدين إلى إجمالي الناتج المحلي الفعلية في السنوات الخمس المقبلة التوقعات بمقدار 10 نقاط مئوية في المتوسط، كما من المتوقع أن يتجاوز الدين العالمي المعرض للخطر- أي المستوى المستقبلي للدين في سيناريوهات التطورات المعاكسة المتطرفة- توقعات السيناريو الأساسي بنحو 20 نقطة مئوية خلال السنوات الثلاث المقبلة، ليصل إلى 115 في المئة من إجمالي الناتج المحلي. ويعزى هذا الوضع إلى عوامل عدة، منها النمو الاقتصادي الضعيف، وشروط التمويل الأكثر تشديداً، وعدم تحقيق الأهداف المالية العامة، بالإضافة إلى زيادة عدم اليقين الاقتصادي والسياسي.

هذا، ويمثل الدين الكبير غير المحدد- الذي يشير إلى التغيرات في الدين التي لا تُعزى إلى الفروق في أسعار الفائدة أو معدلات النمو أو العجز في الميزانية أو تحركات أسعار الصرف- عاملاً إضافياً يسهم في ارتفاع الدين العام بشكل يتجاوز التوقعات. ويُظهر تحليل شمل أكثر من 30 دولة أن نحو 40 في المئة من هذا النوع من الدين ينجم عن الالتزامات الاحتمالية والمخاطر المالية العامة التي تواجهها الحكومات، والتي ترتبط في الغالب بخسائر المؤسسات المملوكة للدولة.

تاريخياً، شهد حجم الديون غير المحددة تقلبات كبيرة، حيث ارتفع بشكل حاد ليصل إلى 7 في المئة من إجمالي الناتج المحلي خلال فترات الضغوط المالية، متأرجحاً حول متوسط قدره 1 و1.5 في المئة في الأوقات العادية.

 

صراع الدين بين الاقتصادات

 

وفي ظل هذا المشهد، تصاعدت حدة عدم اليقين بشأن السياسات المالية العامة، وأصبحت الحدود السياسية المتعلقة بالضرائب أكثر وضوحاً. وأشارت دراسات صندوق النقد الدولي السابقة إلى وجود توجه عام نحو زيادة الإنفاق الحكومي خصوصاً مع تزايد الحاجة الملحة  للاستثمار في البنية التحتية الخضراء والتكيّف مع آثار التغير المناخي، بالإضافة إلى مواجهة تحديات الشيخوخة، وتفاقم مشكلة الأمية.

وكشفت البيانات عن تفاوتات حادة في مستويات الدين المعرض للخطر بين الاقتصادات المتقدمة والناشئة. فبينما شهدت الاقتصادات المتقدمة انخفاضاً طفيفاً في الدين المعرض للخطر مقارنة بـذروة الجائحة، إلا أنه لا يزال مرتفعاً عند 134 في المئة من إجمالي الناتج المحلي. وعلى النقيض، ازداد الدين المعرض للخطر في اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية بشكل ملحوظ ليصل إلى 88 في المئة من إجمالي الناتج المحلي. تعكس هذه الفروقات التفاوت في مستويات الدين الأولية بين المجموعات، بالإضافة إلى ارتفاع العجز الأولي في الاقتصادات الكبرى مثل الصين والولايات المتحدة. ومع ذلك، فإن الأوضاع المالية الهشة تلعب دوراً أكبر في زيادة مخاطر الدين في اقتصادات الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية.

 

استراتيجيات شاملة لتحقيق الاستقرار المالي

 

تقرير الراصد المالي أشار إلى أن حجم الدين الحالي يتطلب جهوداً مكثفة وإجراءات مضاعفة لتحقيق الاستقرار والحدّ من مخاطر الدين. ويتضمن ذلك اعتماد استراتيجيات مالية شاملة تدعم النمو الاقتصادي وتقدم الدعم للأسر الأكثر عرضة للمخاطر، بالإضافة إلى الاستفادة من الفرص المتاحة لتيسير السياسة النقدية.

وتتجلى العناصر الأساسية للتصحيحات المالية في النقاط التالية:

تحديد التصحيح المالي

تُظهر البيانات أن عمليات التصحيح المالي الحالية، والتي تبلغ في المتوسط 1 في المئة من إجمالي الناتج المحلي سنوياً حتى العام 2029، غير كافية لتحقيق الاستقرار المالي على المدى الطويل حتى في حال تنفيذها بالكامل. ولتحقيق هذا الهدف، يتطلب الأمر اتخاذ إجراءات تصحيحية مالية حازمة تتراوح ما بين 3.0 و 4.5 في المئة من إجمالي الناتج المحلي على المدى المتوسط، وتمثل هذه النسبة زيادة كبيرة مقارنة بالتوقعات الحالية، وتتجاوز المعايير التاريخية لمعظم الدول، خصوصاً تلك التي تعاني من استمرار ارتفاع مستويات الدين. ويشكل هذا التعديل المطلوب ضغطاً كبيراً على الموارد المالية، حيث يعادل نحو 20 في المئة من إجمالي الإيرادات في الدول النامية منخفضة الدخل وما يقارب 13 في المئة في الدول الأخرى.

وعلى الرغم من أن الدول التي تتمتع بأسس مالية قوية وتوقعات اقتصادية إيجابية قد لا تحتاج إلى إجراءات تصحيحية بهذا الحجم، فإنها مطالبة بمواصلة جهودها للحفاظ على استدامة أوضاعها المالية وتقليل المخاطر التي قد تهدد هذه الاستدامة.

ويوفر تحسن الأوضاع الاقتصادية العالمية فرصة سانحة لإعادة بناء هوامش الأمان المالي. ففي ظل تراجع التضخم وتيسير السياسة النقدية، أصبحت الاقتصادات أكثر قدرة على تحمل أعباء الإصلاحات المالية. ومع ذلك، فإن تأجيل هذه الإصلاحات سيزيد من تعقيد المشكلة ويؤدي إلى ارتفاع التكاليف الاقتصادية على المدى الطويل. وتشير التجارب السابقة إلى أن ارتفاع مستويات الدين قد يسفر عن ردود فعل سلبية في الأسواق، مما يقلل من مرونة المالية العامة في مواجهة الصدمات الاقتصادية.

عناصر إصلاح مالية

تختلف حزم الإصلاحات المالية اللازمة من بلد لآخر. في الاقتصادات المتقدمة، يتطلب الأمر إعادة توجيه الإنفاق العام مع التركيز على إصلاحات الدعم المالي التي تشغل حصة كبيرة من الميزانية. في الوقت نفسه، يجب على هذه الاقتصادات، التي تتميز بمعدلات ضرائب منخفضة نسبياً، العمل على زيادة الإيرادات العامة من خلال رفع الضرائب غير المباشرة وتطبيق زيادات تدريجية على الضرائب على الدخل. بالإضافة إلى ذلك، ينبغي إلغاء الإعفاءات الضريبية غير المستحقة وترشيد النفقات الضريبية، بالتوازي مع اتخاذ إجراءات لخفض الإنفاق.

في المقابل، ينبغي على الاقتصادات الناشئة والنامية اعتماد استراتيجيات شاملة لتعزيز إيراداتها العامة، يشمل ذلك توسيع قاعدة الضرائب، وزيادة الضرائب غير المباشرة، وترشيد الإعفاءات الضريبية، كما يجب السعي لبناء أنظمة ضريبية أكثر كفاءة وعدالة، مع الاستفادة من التكنولوجيا الرقمية في إدارة الإيرادات.

أما على صعيد الإنفاق، فعليها التركيز على ترشيد النفقات الحكومية، وبخاصة فواتير الأجور، وتوحيد شبكات الأمان الاجتماعي، والتخلص التدريجي من دعم الوقود. وستتيح هذه الإجراءات، جنباً إلى جنب مع مراجعة شاملة للإنفاق العام، إلى تحرير موارد مالية يمكن توجيهها نحو الاستثمار في البنية التحتية والخدمات العامة، وحماية الفئات الأكثر ضعفاً.

مالية حكومية شفافة وموثوقة

كذلك، يجب على جميع الحكومات وضع خطط مالية شاملة مدعومة بأطر مالية متوسطة الأجل واضحة وموثوقة، وذلك لترسيخ مسارات الإصلاح المالي وتقليل حالة عدم اليقين المحيطة بالسياسات المالية، كما إن وجود أجهزة رقابة مالية مستقلة وقوية من شأنه أن يسهم بشكل كبير في تعزيز مصداقية الحكومات وضمان تنفيذ الخطط المالية بكفاءة.

ولتقليل المخاطر المرتبطة بالدين العام، يجب على الحكومات التركيز على تخفيض الدين غير المعلن الناجم عن المتأخرات والالتزامات الطارئة، وتعزيز الحوكمة المالية. ويتطلب ذلك إجراء تقييمات منتظمة ومراقبة مستمرة للالتزامات الطارئة، بما في ذلك تلك المرتبطة بالمؤسسات المملوكة للدولة، كما إن الكشف الشفاف والمفصل في الوقت المناسب عن جميع جوانب الدين العام، بما في ذلك هيكلية الديون، والأدوات المالية المستخدمة، ومخاطر التعرض، والكيانات الحكومية المشمولة في التقارير المالية، يساهم في تقييم أكثر صرامة للمخاطر المالية، ويشجع على المزيد من التدقيق، ويحدّ من تراكم الديون غير المعلنة.

 مواجهة أزمات المديونية الحرجة

أما الدول التي تعاني من أزمات ديون أو مستويات ديون غير مستدامة، يتطلب منها إجراءات تصحيحية مالية عاجلة وشاملة لاستعادة استدامة أوضاعها المالية، وقد ساهمت الإصلاحات الأخيرة التي أطلقها صندوق النقد الدولي في تبسيط إجراءات إعادة هيكلة الديون وتسريع وتيرتها، إلا أن هناك حاجة إلى المزيد من الجهود لتعزيز هذه الإصلاحات وتسهيل عمليات إعادة الهيكلة.

ويستدعي التعامل مع هذه الأزمة تضافر الجهود الدولية لتوفير تمويل ميسر للبلدان النامية منخفضة الدخل، وذلك لتجنب فرض إجراءات تقشفية تؤثر سلباً على النمو الاقتصادي. بالإضافة إلى ذلك، يجب على هذه البلدان تنفيذ مجموعة من الإصلاحات الهيكلية الشاملة، مثل تحسين بيئة الأعمال، وتعزيز شبكات الحماية الاجتماعية، وتقليل التشوهات في أسواق العمل والمنتجات. هذا، وتساهم هذه الإصلاحات في تحقيق نمو اقتصادي مستدام على المدى الطويل، وتعزز القدرة على خدمة الديون من خلال زيادة الإيرادات الحكومية وخفض تكاليف الاقتراض.