اقبال على الاستثمار الزراعي في الامارات

في ظل الظروف الاستثنائية وتباطؤ حركة التجارة العالمية التي فرضتها جائحة كورونا، برزت أهمية القطاع الزراعي المحلي في الإمارات، وظهرت الحاجة ملحة إلى المزيد من الاستثمارات لزيادة الإنتاج المحلي، واندفعت شركات كبيرة وناشئة إلى الاستثمار في توسيع مزارعها او إنشاء مزارع جديدة وزيادة انتاجها لتلبية الطلب المتزايد على المنتجات الزراعية.

وفي الوقت الذي تتزايد فيه الضغوط على سلاسل الإمدادات العالمية بسبب الفيروس، والتهديدات من بعض الدول الزراعية المنتجة لفرض قيود على بعض الصادرات الزراعية، يأمل المنتجون المحليون في لعب دور أكبر في هذا القطاع الحيوي.

دعم تمويلي من الحكومة

على الرغم من الجهود الحثيثة التي تبذل لدعم الزراعة، فإن اهتمام القطاعين العام والخاص في القطاع الزراعي في الإمارات ليس وليد اللحظة، ويؤكد الشريك المؤسس العضو في Pure Harvest Smart Farms محمود عدي إلى "أولاً-الاقتصاد والأعمال" أن موضوع الأمن الغذائي يناقش في الدول الخليجية منذ فترة ويعتبر أولوية للحكومات، وقد اتخذت مبادرات عدة منذ سنوات لحل معضلة الأمن الغذائي كاستثمار أراض زراعية واستغلالها خارج حدود الدول، لكن جائحة كورونا وتعثر سلسلة الإمدادات سلطت الضوء على ضرورة توافر إنتاج محلي داخلي.

وخصصت الإمارات حزماً تحفيزية كبيرة لدعم مشاريع زراعية تعتمد على التقنيات الحديثة، كما خصصت صناديق ومؤسسات حكومية استثمارات لتشجيع رواد الأعمال على الاستثمار في القطاع الزراعي، حيث تقدم جهات عدة مثل صندوق خليفة ومؤسسة محمد بن راشد التمويل المطلوب للمزارعين بشروط تحفيزية تصل إلى صفر فوائد وفترة سماح تصل إلى ثلاث سنوات لسداد القرض لتجهيز المزارع وبناء النظم الزراعية المطلوبة.

مبادرات خاصة ومشاريع ناشئة

تماشياً مع رؤية الإمارات لتوفير الأمن الغذائي، بادر مستثمرون كثر في السنوات القليلة الماضية إلى إطلاق مشاريع زراعية تلبي جزءاً من حاجة الاستهلاك المحلي، وأنشِئت عشرات المزارع الحديثة داخل الإمارات مثل مزارع مدار ومزارع بادية وPure Harvest Smart Farms وEmirates Bio Farm وAero Fresh Farm ومزارع الروافد العضوية وغيرها، وقد استفادت هذه الشركات مجتمعة من الثورة التكنولوجية والتقنيات الزراعية الحديثة التي باتت تسمح بالتحكم المناخي. ويقول عدي: "لولا التكنولوجيا لكان من الصعب تأمين إنتاج للخضار والفاكهة بشكل اقتصادي على مدار العام". ويضيف: "أثبتت الدراسات أن دمج الزراعة المائية مع البيوت الزجاجية والبلاستيكية حل مثالي للمناطق التي يتوافر فيها العنصر المادي ولا تتوفر فيها الظروف المناخية والبيئة المناسبة للزراعة، والإمارات مثال ممتاز على هذا الواقع".

وعمد مؤسس ورئيس مجلس إدارة مجموعة Gracia Farms حامد الحامد منذ العام 2012، إلى خلق مشروع متكامل يتضمن مزارع للثروة الحيوانية والزراعية بتقنيات تشمل الزراعة بالمياه (hydroponics) والزراعة العضوية والزراعة التقليدية، فضلاً عن منشأة لإنتاج المنتجات الغذائية من المشتقات الزراعية والحيوانية المنتجة في المزارع، وتوسع الحامد في مشروعه ليشمل مركزاً للبرمجيات والتكنولوجيا الزراعية لابتكار وتطوير بيوت بلاستيكية بأحدث التقنيات، فضلاً عن مركز لتدريب الأفراد والطلاب على أحدث النظم الزراعية. ويقول الحامد: "الهدف من المشروع ليس مجرد استثمار أرض للإنتاج الزراعي وتسويقه، إنما ذهب الى ابعد من ذلك لنشر ثقافة زراعية ومنصة للتواصل البيئي والاقتصادي ولتعليم وتدريب جيل المستقبل على أحدث النظم الزراعية التي تمكنهم من إدارة مزارع بأعلى المواصفات والمعايير"، بالإضافة إلى مزارعها الخاصة، تشرف مجموعة Gracia حالياً على نحو 120 مزرعة مملوكة من مزارعين وتقدر مساحة كل منها بنحو 30 ألف متر مربع، ويبلغ إجمالي إنتاج Gracia السنوي نحو ستة آلاف طن من تشكيلة واسعة من المنتجات الزراعية الشتوية والصيفية تتخطى الثمانين صنفاً. ويتابع الحامد: "نأخذ بيد المزارع ونقدم له كل ما يحتاج إليه من المعرفة والدعم التقني ليحترف الزراعة ويتمكن من تقديم إنتاج بأعلى معايير الجودة والسلامة، وكذلك تصريف المنتج بعائد مالي عادل".

التحديات المستجدة للأمن الغذائي بسبب جائحة كورونا، دفعت شركات رأس المال المغامر إلى اتخاذ قرارات شجاعة وتمويل شركات زراعية ناشئة بهدف تطوير إمكانات الإنتاج الزراعي وتأسيس مرافق إنتاج ومزارع ومراكز أبحاث وتطوير والمساهمة في إيجاد حلول للتحديات التي تواجه القطاع الزراعي. وعقد مكتب أبوظبي للاستثمار شراكات استثمارية مع كل من "أيروفارمز" و"مزارع مدار" وآر إن زد" وآر دي آي" بقيمة 367 مليون درهم (100 مليون دولار)، وتتطلع مزارع مدار من خلال هذا الاستثمار إلى زيادة إنتاجها وحصتها في السوق، حيث تعتزم إطلاق مزارع جديدة في نهاية العام في مدينة خليفة الصناعية في أبوظبي بمساحة تقدر بنحو خمسة آلاف متر مربع لإنتاج أكثر من طن من البندورة بأنواعها المختلفة يومياً، وتقول مديرة العلامة التجارية في مزارع مدار هيفاء الرشيد: "سيساهم المشروع الجديد أيضاً في زيادة إنتاجنا من الخضراوات الورقية ثلاثة أضعاف"، لافتة إلى أن موقع مدينة خليفة الصناعية بين دبي وأبوظبي سيسمح بإيصال المنتجات إلى مختلف أنحاء الإمارات في غضون ساعات قليلة فتصل طازجة إلى المستهلك. 

وحصلت شركة Pure Harvest Smart Farms الناشئة على تمويل بقيمة 21 مليون دولار لتوسيع عملياتها في الإمارات وتشغيل مزارع جديدة في السعودية، وستساهم وفرة إنترناشونال، شركة الاستثمار المملوكة لمؤسسة معاشات التقاعد الكويتية الحكومية بعشرة ملايين دولار من قيمة التمويل، ويشير عدي الذي يشغل أيضاً منصب المدير والعضو في شركة شروق للاستثمارات إلى أن شركات رأس المال المغامر عند اتخاذ قراراتها التمويلية تتطلع إلى قدرة المشروع على النجاح والعائدات منه، وقد أثبتت مزارع Pure Harvest  أنها مشروع تجاري بامتياز، وفق عدي، إذ حققت أداءً فاق التوقعات من ناحية جودة الإنتاج وكمياته وأسعاره في السوق. ويقول: "أثبت مشروع المزارع الذكي أنه نموذج تجريبي ناجح، ويمكن أن يدر أرباحاً جيدة في حال تمّ التوسع وأنشئت مزارع على نطاق أوسع"، ويؤكد عدي أن عائدات الشركة تغطي التكاليف والنفقات كافة قائلاً: "إن هدف الشركة الناشئة في بداياتها، ليس الربح إنما إثبات نجاحها وقدرتها على الاستحواذ على حصة في السوق وتأمين استمراريتها"، وستستخدم الشركة التمويل بهدف مضاعفة الإنتاج الحالي من البندورة الذي يقدر بنحو 500 طن سنوياً نحو 15 مرة ليبلغ نحو عشرة آلاف طن سنوياً، فضلاً عن التوسع في إنتاج أصناف جديدة من الخضراوات الورقية والخس والفريز، ويضيف أن المشاريع التوسعية ستؤمن للشركة حتماً أرباحاً جيدة.

وتعتزم مجموعة غراسيا بالشراكة مع مساهمين عدة إطلاق مشروع مدينة زراعية متكاملة باستثمار يقدر بنحو مليار دولار في مرحلته الأولى، وستتضمن المدينة مشاريع للثروة السمكية والحيوانية والنباتية بأحدث التقنيات فضلاً عن مشروع لإنتاج الأعلاف والحبوب والأسمدة وستكون لديها القدرة على إنتاج الطاقة الخاصة بها. 

تحديات بالجملة

تحديات عدة رافقت أصحاب المزارع في الإمارات، أبرزها غياب البنى التحتية الملائمة للزراعة، وفق عدي والتي تتمثل في طبيعة المناخ والنقص في مياه الري وثاني أوكسيد الكربون، ويقول: "إن جميع هذه العناصر غير متوافرة على نطاق تجاري واسع، وكلفة تأمينها مرتفعة جداً تجعل من المشروع غير مجدي"، والتحدي الثاني وفق عدي تمثل في عدم ثقة المستهلك الإماراتي بالمنتجات الزراعية المحلية، لافتاً إلى أن "إقناع المستهلك بجودة المنتجات التي نقدمها ومطابقتها للمعايير العالمية أخذ وقتاً وجهداً طويلين"، وتمثل التحدي الثالث في إيجاد الخبرات والكفاءات المطلوبة لإدارة المشاريع الزراعية وللانتقال بالمشروع من مستوى معين إلى آخر، ويشير عدي إلى أن التحدي الأبرز كان في تأمين التمويل المطلوب للمشاريع الزراعية وانه لم يكن عملية سهلة بتاتاً".

لكن هذه التحديات واجهها المستثمرون بحلول علمية، ويؤكد الحامد أن التقنيات الزراعية الحديثة داخل البيوت البلاستيكية والزراعة المائية، مكّنت المزارعين من تجاوز مشكلة المناخ والحرارة المرتفعة والمياه في الإمارات وتأمين المحاصيل على مدار العام، حتى أنها تمكنت من التصدير إلى الخارج. أما مشكلة ارتفاع درجات الحرارة فووجهت باعتماد استراتيجية زراعة أراضي خارج الإمارات لتعويض النقص الحاصل في بعض المحاصيل في فترة الصيف. وتملك مجموعة Gracia مزارع عدة خارج الإمارات في مصر وسوريا والأردن وسريلانكا، لافتاً إلى أن الإنتاج يأتي إلى الإمارات على أنه منتج إماراتي لكن زرع في الخارج.

حلول علمية

وعن تحديات التسويق، يلفت الحامد النظر إلى أنهم تمكنوا من تجاوزه عبر اعتماد طرق كثيرة وتحديداً عبر إيصال المنتج مباشرة إلى المستهلك النهائي بدلاً من بيعه بالجملة، وبالتالي زيادة العائد من المنتج على المزارعين، لافتاً إلى أن مجموعة Gracia تعطي المزارع 70 في المئة من قيمة المنتج السوقية، وهي نسبة مرتفعة جداً. وكذلك، يعمدون إلى إضفاء قيمة مضافة على بعض المنتجات عبر تحويلها وتصنيعها كمنتجات غذائية مثل المخللات والمربيات وبيعها بأضعاف أسعارها، وعمد بعض الشركات إلى اعتماد طرق جديدة بهدف تلبية الطلب المحلي، وتشير الراشد إلى أن مزارع مدار جعلت منتجاتها الزراعية متاحة للمستهلكين عبر ثلاث منصات تسوق إلكترونية: Freshontable, Narinport, Barakat، بحيث تصلهم طازجة إلى أنحاء الإمارات كافة، وتستعد Gracia لإطلاق تطبيق هاتفي جديد لإيصال المنتجات الزراعية مباشرة إلى المنازل.

وبهدف إيجاد أصحاب الخبرات الزراعية المطلوبة للعمل في المزارع، أطلقت مزارع عدة مراكز لتدريب المزارعين لنقل الخبرة والمعرفة المتوافرة إلى الشباب الراغبين في التعلم وطلاب المدارس، وأنشأت مجموعة غراسيا مركزاً متخصصاً لتدريب الطلاب والمزارعين، وأطلقت مزارع مدار في أيلول الماضي برنامجاً لتمكين الجيل الصاعد وتزويده بالمهارات والمعرفة المطلوبة للزراعة، وتقول:"سيتمكن الطلاب من خلال هذه البرامج من فهم التحديات البيئية ومعرفة الحلول التي تخولهم مواجهة تحديات المستقبل".  

في المحصلة، تمكّنت الإمارات بفضل هذه المبادرات الواعدة من تأمين إنتاج ذات جودة عالية وبكميات وافرة تغطي جزءاً لا بأس به من حاجة الاستهلاك المحلي، إلا أن ثمة فرصاً واعدة جداً للاستثمار في القطاع الزراعي، وفق عدي، الذي يشير إلى أن حاجة الإمارات الاستهلاكية تتخطى بكثير المزروعة محلياً.