مع تسارع وتيرة التحول الرقمي، يتعمق التعاون بين المصارف وشركات التكنولوجيا المالية ولاسيما على مستوى منطقة الخليج، بعد أن برزت هذه الشركات في مرحلة أولى كمنافس للمصارف التقليدية. ويبدو هذا التعاون مدفوعاً بارتفاع الطلب على الخدمات المصرفية الرقمية من قبل شريحة الشباب. حول هذه المعطيات، التقى "أولاً-الاقتصاد والأعمال" المدير العام ورئيس قسم الخدمات المالية في الشرق الأوسط لدى ألفاريز ومارسال أسد أحمد في هذا الحوار.
• كيف ساهم التحول الرقمي في تطور الخدمات المصرفية خلال السنوات الماضية؟
شهد قطاع الخدمات المصرفية تحولاً كبيراً خلال السنوات العشر الماضية مدفوعاً بظهور التقنيات الرقمية، والذي أثمر عن إحداث نقلةٍ نوعيةٍ في القطاع ستنتهي بالمصارف التي ترفض التكيّف مع هذه التغيرات إلى التخلف عن اللحاق بالركب وعدم القدرة على استمرار أعمالها. وتسعى المصارف التقليدية إلى تطوير عملياتها تزامناً مع دخول المصارف الرقمية إلى الأسواق، ما يشكل عاملاً مهماً في تعزيز أعمال المؤسسات المالية ومكانتها. لكن هذا التغيير أسفر عن تحول في توجهات العملاء وتوقعاتهم، حيث يزداد عدد المستهلكين الذين يفضّلون الحصول على الخدمات المصرفية الإلكترونية التي تلبي جميع احتياجاتهم من خلال منصةٍ واحدة شاملة.
وتعمل المصارف على تسريع تحولها نحو تقديم الخدمات المصرفية الرقمية مدفوعةً بالطلب الملح من العملاء، حيث تحرص مختلف شرائح قطاع التكنولوجيا المالية في دول مجلس التعاون الخليجي على توفير حلول تعالج جوانب مالية محددة، مثل المدفوعات الرقمية والإقراض، بما فيه خدمة اشتر الآن وادفع لاحقاً، والتأمين وإدارة الثروات وإقراض النظراء وغيرها.
كذلك، سعت العديد من شركات التكنولوجيا المالية، أو ما يعرف بالمؤسسات المالية غير المصرفية أو شركات الخدمات المالية غير التقليدية، إلى توسيع أنشطتها في دول الخليج خلال الأزمة الصحية العالمية وتسريع الانتقال إلى تقديم الخدمات الإلكترونية.
53 في المئة من المدفوعات في المنطقة تعدّ رقمية
• كيف توسع برأيكم قطاع التكنولوجيا المالية في المنطقة عموماً ولاسيما في الخليج؟
يسجل معدل اعتماد المدفوعات الرقمية لدى العملاء في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا نسبةً لافتة للانتباه عند 53 في المئة حالياً، في حين بلغ معدل التحويلات المالية الرقمية 41 في المئة وفق بيانات شركة ريدسير2، علماً أن معدل الاعتماد مرتفع أساساً في فئتي المدفوعات والتحويلات المالية بما يتجاوز 40 إلى 50 في المئة.
توقعات بارتفاع معدل استخدام الرقمنة في الإقراض والتأمين بنحو 5 أضعاف
وعلى الرغم من أن قطاعات التكنولوجيا المالية الأخرى كالإقراض وتكنولوجيا التأمين تُعد حديثة النشأة، تشير التوقعات إلى ارتفاع معدل استخدامها في المستقبل بواقع 5 أضعاف عن المستويات الحالية. وتستعد منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لتحقيق نموٍ كبير مع ظهور شركات التكنولوجيا المالية والمصارف الرقمية، إذ نتوقع أن يسجل قطاع التكنولوجيا المالية رقماً قياسياً يصل إلى 3.45 مليارات دولار أميركي في حلول العام 2026، ولاسيما وأن هذه الشركات وجدت فرصةً مؤاتيةً في حالة الاضطراب الراهنة لتتمكن من استقطاب محبي التقنيات الحديثة، ويتسع باب الفرص أمام المزودين الجدد كلما تحولت الخدمات إلى النمط الإلكتروني مثل إجراء المدفوعات الدولية أو شراء العملات الأجنبية.
وتتحول الخدمات المصرفية الرقمية إلى نمط حياةٍ لدى العملاء في دول مجلس التعاون الخليجي، حيث شهدنا خلال العام الماضي إقبال ملايين العملاء الجدد على الخدمات الرقمية، بعد أن ساد الاعتقاد في السابق بأن شركات التكنولوجيا المالية تُعد منافساً للنظام المالي المعروف، ولكنّ أزمة كوفيد-19 ساهمت بإحداث نقلةٍ نوعيةٍ في بيئة العمل وشجعت على تعاون المصارف التقليدية مع شركات التكنولوجيا المالية لتسريع المدفوعات الرقمية.
• كيف تصفون التحول نحو تفضيل اعتماد الحلول الرقمية في منطقة الخليج؟
عملت المصارف التقليدية، في ظل تزايد الوصول إلى الإنترنت وانتشار الأجهزة الذكية في منطقة دول الخليج، على بناء بنيتها التحتية الرقمية وتوفير بعض خدماتها إلكترونياً على مواقعها الإلكترونية ثم عن طريق التطبيقات، ولكنّ هذا التوجه انحسر مع ظهور شركات التكنولوجيا المالية الناشئة، والذي عزز نواحي المرونة والابتكار التقني، ما مهد الطريق لإطلاق خدمات جديدة تُعنى باحتياجات العملاء المتغيرة لخدمات مصرفية أكثر سرعةً ووصولاً وسهولة.
وظهرت ثلاثة مصارف رقمية في الإمارات، كما وافق مجلس الوزراء السعودي على منح ترخيص لبنكين رقميين في المملكة برأس مال إجمالي يبلغ 1.06 مليار دولار، وتساهم هذه المصارف في تعزيز جودة الخدمات وتجربة المستخدمين، مما يدعم الابتكار ويقلل التكاليف.
3 مصارف رقمية مستقلة في الإمارات ومصرفان في السعودية
• ما هي أبرز النماذج المستخدمة من قبل المصارف لتشجيع شركات التكنولوجيا المالية على إنشاء منصات التكنولوجيا الخاصة بها؟
هناك ثلاثة نماذج مرتبطة بتوجه المصارف نحو تشجيع شركات التكنولوجيا المالية لبناء منصات التكنولوجيا الخاصة بها.
يتمحور النموذج الأول حول قيام المصارف بتمويل شركات التكنولوجيا المالية في مراحلها الأولى وتزويدها برأس المال اللازم لتطوير التقنيات ودعم خدماتها الرقمية. وتتفوق المصارف التقليدية حالياً، في بعض المناطق ولاسيما التي لا تتوفر فيها الخدمات المصرفية المفتوحة، على شركات التكنولوجيا المالية في ما يتعلق بثقة العملاء، لذا يساهم نشر البرمجيات الصحيحة في دعم المصارف لتحسين تجربة العملاء بشكلٍ عام وتقديم خدمات مخصصة لهم.
بينما يتمحور النموذجان الثاني والثالث حول مسألة الملكية المتبادلة، حيث نشهد إعلان المزيد من المصارف، خارج دول مجلس التعاون الخليجي، عن استحواذ على حصصٍ في شركات التكنولوجيا المالية (النموذج الثاني3)، ومثال ذلك في الهند بنك كوتاك ماهيندرا الذي يمتلك 9.9 في المئة من أسهم شركة كفين تكنولوجيز؛ وبنك إتش دي إف سي الذي استحوذ على 5.2 في المئة من أسهم شركة مينت أوك إنوفيشنز العام الماضي.
أما النموذج الثالث فيتضمن توجه شركات التكنولوجيا المالية إلى شراء حصص في المصارف، إذ رأينا هذا التوجه في الولايات المتحدة بشكل واضح عند الإعلان عن قيام ست شركات تكنولوجيا مالية بشراء حصص سهمية في المصارف المعتمدة الصغيرة في العام الماضي.
• كيف يمكن للمصارف إعادة ابتكار منظومة عملياتها؟
نجحت المصارف التي تمكنت من إعادة ابتكار المنظومات الضخمة والمعقدة لعملياتها الخلفية في توفير تجارب أفضل لعملائها. وفي حين تبرز الحاجة إلى بذل المزيد من الجهود في هذا الإطار، يتعين على المصارف تحسين القدرات الرقمية لعملياتها الخلفية باستمرار لتتمكن من ربطها بسلاسة مع تجارب المستخدمين والحدّ من النفقات التشغيلية. ويفضي هذا الانتقال بالنسبة الى بعض المصارف إلى إجراء تحديث شامل لهيكلياتها التقنية والانتقال إلى عمليات رقمية بالكامل، وبالتالي يتمثّل التحدي القائم أمام المصارف اليوم في تحقيق الاستفادة القصوى من التكنولوجيا والابتكارات بهدف تقليص تكاليف الوساطة والمحافظة على نتائجها النهائية.
ويتوجب على المصارف اليوم تسريع جهود التحول الرقمي التي تبذلها وتقديم خدماتها المصرفية ضمن منصة واحدة متكاملة، مما يعزز العلاقات مع العملاء ومستويات ولائهم، إضافة إلى تحسين تنوّع المنتجات والمحافظة على العملاء الحاليين واستقطاب عملاء جدد من خلال أنشطة البيع المتقاطع، كما ينبغي أن تركز المصارف على تلبية احتياجات العملاء بصورة استباقية وتزويدهم بخدمات شاملة ومتكاملة تحت سقف واحد، ويضمن الجمع بين ثقة العملاء والنماذج المبتكرة نجاح الشراكات بين المصارف وشركات التكنولوجيا المالية.
اعتبار المصارف ولاء العملاء لها يستند إلى كونها مصدراً للأمان تصور خاطئ
• هل تعتقدون أن الأجيال الجديدة من العملاء تشكل محركاً للعمليات المصرفية الرقمية؟
لا تزال بعض المصارف التقليدية متمسكة بتصور خاطئ يقوم على أن ولاء العملاء للبنوك يستند إلى اعتبارها مصدراً للأمان. ولا أعتقد شخصياً أن الأجيال الشابة توافق على هذه الفكرة، إذ يتوقع العملاء في الوقت الحالي من المصارف الرقمية توفير خدمات أسرع وأقل تكلفة بالمقارنة مع المصارف التقليدية، بالإضافة إلى تقديم الخدمات المصرفية المفتوحة التي تتيح للعملاء الوصول إلى الخدمات المالية التي تقدمها الأطراف الخارجية، فضلاً عن التخلي عن القيود التقليدية مثل تحويل الأموال خلال أيام الأسبوع أو ساعات العمل فقط.
على المصارف الاستثمار في تقنيات تلبي احتياجات العملاء
ويتوجب على المصارف ضمان تقديم خدمة عملاء متقدمة ومتطورة ضمن مراكز الاتصال التابعة لها، بالإضافة إلى ضرورة الاستثمار في مجموعةٍ متكاملة من التقنيات القادرة على معالجة أسئلة العملاء وتلبية احتياجاتهم بكل سهولة، مع ضمان تزويدهم بالوعي والمعرفة الكاملة حول احتياجات محددة. ويتطلب تحقيق هذه الأهداف ابتعاد مزودي الخدمات المالية عن تقديم الخدمات التي تناسبهم باستخدام القنوات التي يفضلونها، والتركيز عوضاً عن ذلك على تلبية احتياجات العملاء في الوقت المناسب وبالطريقة التي يفضلونها. وتلقى هذه الأفكار أصداءً إيجابية في مختلف الأوساط المالية، إلا أنها غالباً لا تُطبق بطريقة مجدية على مختلف المستويات من دون استثناء. فمثلاً لا تزال تجارب الخدمات المنخفضة الجودة لدى مراكز التواصل مع العملاء أمراً شائع الحدوث في الوقت الحالي.
وتضم منطقة الشرق الأوسط شريحة أكبر من الشباب مقارنة بالغرب، وتشهد توجهاً أسرع نحو اعتماد التقنيات التكنولوجية من قبل المستخدمين من شريحة جيل الألفية والأجيال الجديدة التي اعتادت استخدام التطبيقات المحمولة، والتي تتطلب تجارب استخدام سلسة. ويمثّل هؤلاء الأفراد الشريحة المستهدفة الرئيسية بالنسبة الى المصارف الجديدة التي تسعى إلى استقطابهم من خلال توفير منتجات وخدمات مبسطة.
الجهات التنظيمية بدأت وإن بدرجاتٍ متفاوتة المساواة بين المصارف التقليدية والرقمية
• ما هي التغيرات التي تشهدها البيئة التنظيمية في الخليج لتلائم الخدمات المصرفية الرقمية؟
على الرغم من أن المصارف التقليدية لا تزال تملك الانتشار الأكبر في المنطقة، فإنها تدرك بصورة متزايدة أن الاعتماد على الأدوات وقواعد العملاء القائمة لن يكون كافياً للمحافظة على حصتها في السوق أو توسيعها.
وقادت إجراءات الإغلاق الناتجة عن أزمة كوفيد-19 إلى زيادة الطلب على الخدمات المصرفية الرقمية، وسلطت الضوء على إمكانات المصارف الجديدة. ولكن كما هي الحال في الكثير من المناطق الأخرى، حافظ القطاع المالي في دول مجلس التعاون الخليجي على منهجية محافظة انعكست في إحجام غالبية المصارف عن القيام بالتغيير واعتمادها بشكل أساسي على الأنظمة القديمة. ويشهد هذا الواقع تغيراً في الوقت الحالي، فقد بدأت الجهات التنظيمية بدرجاتٍ متفاوتة بتحقيق المساواة بين المصارف التقليدية والرقمية، وهي عملية ستتطلب وقتاً وجهداً كبيرين.
وتسعى شركات التكنولوجيا الرقمية والمصارف الجديدة والتطبيقات المالية إلى الحصول على حصة في سوق الخدمات المصرفية والمالية، مما يُبين أهمية تطوير البيئة التنظيمية لتتيح للمؤسسات المالية المختلفة الاستفادة من خلال التعاون في ما بينها لتحقيق أهدافها المشتركة، وهو ما تجلى في مبادرات عدة في الإمارات والبحرين.
وبينما تؤدي هذه الشبكات والإجراءات دوراً اقتصادياً محورياً، يمكن أن تتسم بالتعقيد، والتشتت في بعض الأحيان، لتُظهر أوجه قصور في الكفاءة التشغيلية. وبيّن تقرير "دروس مستقاة من تجربة جرينسيل كابيتال"، الصادر عن لجنة الخزانة التابعة لمجلس العموم البريطاني في يوليو 2021، تأثير ضعف البيئة التنظيمية. ويُنصح في هذا الإطار بالعمل بشكل استباقي لبناء هيكلية راسخة بالتوازي مع زيادة اندماج شركات التكنولوجيا المالية ضمن المؤسسات المالية العامة.
• هل تتوقعون المزيد من التعاون بين المصارف وشركات التكنولوجيا المالية في المستقبل؟
سادت نظرة في الماضي ترى في شركات التكنولوجيا المالية تهديداً للنظام المالي القائم، إلا أن العديد من الشركات نجحت مع الزمن بتأسيس حضورها كشركاء متعاونين ضمن المنظومة المالية، وأسهم هذا التعاون في توفير الخدمات المالية الأساسية أمام الجميع وتوفير الخدمات المصرفية عن بعد. وتعمل العديد من شركات التكنولوجيا المالية والمصارف على ترسيخ شراكاتهم القائمة، ويتجه بعضها نحو الاندماج بغرض جعل هذه الشركات جزءاً من منصات المصارف الرقمية.
وسيشهد قطاع المصارف في المستقبل تغيرات جذرية بالمقارنة مع المرحلة الحالية نتيجة التطورات المستمرة. ويمكننا القول إن مستقبل قطاع المصارف سيعتمد على العمليات الرقمية بشكل أساسي، وسيوفر اعتماد التحول الرقمي الشامل والتفاعل مع شركات التكنولوجيا المالية الناشئة في المنطقة لقطاع الخدمات المالية الازدهار والتنافس مع المؤسسات المالية الرقمية العالمية التي ستنضم حتماً إلى قائمة مزودي الخدمات المالية في المنطقة.