شهد قطاع الإنشاءات في دولة الإمارات طفرة هائلة رافقتها تحديات كبيرة تتعلق بإدارة مخلفات البناء. ورغم أن هذه المخلفات كانت تعتبر سابقاً ناتجاً جانبياً لا مفر منه، إلا أنها أصبحت اليوم تمثل فرصة استثنائية. وبفضل التزام دولة الإمارات الراسخ بمبادئ الاستدامة، فهي تتخذ موقعاً مثالياً لقيادة الجهود العالمية نحو تحويل مخلفات البناء إلى موارد قيّمة تسهم في تعزيز الاقتصاد الدائري.
هل يمكن أن يكون تبني الاقتصاد الدائري المدعوم بالابتكار التكنولوجي والسياسات القوية هو الحل الأمثل لاستغلال هذه الفرصة؟ أم أن التحديات التي تواجهنا تتجاوز قدرتنا على التصدي لها؟
حجم ونطاق مخلفات البناء
تشمل مخلفات البناء مجموعة واسعة من المواد، بما في ذلك الخرسانة والخشب والمعادن والزجاج والبلاستيك. ووفقاً للتقارير الصادرة عن "إيكومينا" (EcoMena)، تظهر التقديرات أن أنشطة البناء والهدم تسهم بنحو 70 في المئة من إجمالي النفايات الصلبة المنتجة في دولة الإمارات، مما يسلط الضوء على حجم هذا التحدي بشكل غير مسبوق. وتعتمد الأساليب الحالية للتعامل مع هذه المخلفات بشكل رئيسي على الطمر أو الحرق، مما يترتب عليه آثار بيئية جسيمة. لذا، بات من الضروري إعادة النظر في طرق إدارة مخلفات البناء ومعالجتها.
الأهمية البيئية والاقتصادية
تشكل مخلفات البناء تحدياً بيئياً كبيراً، إذ تزيد من الضغط على المطامر التي تعاني أصلاً من تراكم النفايات الحضرية، كما تُهدر كميات كبيرة من المواد أثناء عمليات البناء، بينما تُطمر معظم مخلفات الهدم من دون استغلالها بأي شكل من الاشكال. وعند تحلل هذه المواد في المطامر، تنبعث الغازات الدفيئة التي تسهم في تفاقم مشكلة التغير المناخي بشكل ملحوظ. لذلك، فإن معالجة مخلفات البناء ليست مجرد ضرورة بيئية، بل فرصة اقتصادية استثنائية أيضاً.
تواصل دولة الإمارات تعزيز جهودها في مجال الاستدامة من خلال برامج مبتكرة مثل مبادرة "صفر نفايات" التي أطلقتها الدولة خلال مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي COP28، وتركز هذه المبادرة على تقليل المخلفات وتعزيز إعادة التدوير، بما يتماشى مع أهداف الاقتصاد الدائري للدولة، كما تسعى المبادرة إلى تعزيز كفاءة استخدام الموارد وخفض التكاليف ودعم النمو في مجال التدوير.
الاقتصاد الدائري ضمن قطاع الإنشاءات
يقوم نهج الاقتصاد الدائري في قطاع الإنشاءات على تحويل مخلفات البناء إلى موارد قيّمة، بدلاً من التعامل معها كعبء. وعلى عكس النموذج التقليدي الذي يعتمد على استخراج الموارد واستهلاكها ثم التخلص منها، يهدف النهج الدائري إلى تحقيق دورة مستدامة من إعادة الاستخدام وتجديد المواد، كما يشجع على تصميم المباني بطرق مبتكرة تتيح تفكيكها بسهولة وإعادة استخدامها أو تصنيعها من مواد قابلة للتدوير.
يتضمن اعتماد إطار الاقتصاد الدائري استراتيجيات متعددة، مثل استعادة المواد وإعادة التدوير وإعادة استخدام مخلفات البناء في المشاريع الجديدة. على سبيل المثال، يمكن سحق الخرسانة والأسفلت الناتجين عن الهدم واستخدامهما كركام في البناء الجديد، مما يقلل من الحاجة إلى المواد الأولية، كما يمكن إعادة استخدام الخشب والمعادن أو تحويلها إلى طاقة حيوية أو مواد بناء جديدة.
التحديات التنفيذية
يعد غياب الممارسات الموحدة على مستوى القطاع إحدى العوائق الرئيسية، حيث تتردد بعض الشركات في اعتماد الأساليب المبتكرة بسبب التكاليف المتوقعة أو الصعوبات اللوجيستية. لتجاوز هذه العوائق، يصبح من الضروري وضع معايير موحدة على مستوى القطاع وتوعية أصحاب المصلحة بالفوائد الاقتصادية والبيئية للمواد المعاد تدويرها، كما يجب تصحيح المفاهيم الخاطئة المتعلقة بجودة هذه المواد ومتانتها، بالإضافة إلى ذلك، تتطلب معالجة المخلفات وتحويلها إلى مواد قابلة للاستخدام استثمارات ضخمة في المعدات والمنشآت المتخصصة، مما يشكل تحدياً كبيراً ينبغي معالجته.
الدعم التنظيمي
تعتبر السياسات الحكومية والأطر التنظيمية عنصراً أساسياً في تعزيز تبني ممارسات البناء المستدامة، وقد حققت دولة الإمارات خطوات ملموسة في هذا الاتجاه من خلال مبادرات مثل قانون إدارة النفايات والأجندة الوطنية لإدارة النفايات، وتسهم هذه السياسات في تقليل مخلفات البناء وتعزيز إعادة التدوير ووضع أهداف واضحة لتحويل النفايات بعيداً عن المطامر.
ومع ذلك، فإن تحسين هذه السياسات يمكن أن يسرّع من وتيرة الانتقال نحو الاقتصاد الدائري. على سبيل المثال، يمكن أن يؤدي فرض استخدام المواد المعاد تدويرها في مشاريع البناء، وتقديم حوافز للشركات التي تلتزم بتقليل المخلفات، وتشديد العقوبات على المخالفين للوائح إدارة النفايات، إلى إنشاء منظومة أكثر قوة تدعم ممارسات البناء المستدام.
إتاحة المزيد من الفرص الاقتصادية وفرص العمل
في حين أن الفوائد البيئية لإعادة تدوير مخلفات البناء واضحة، فإن الإمكانات الاقتصادية تحمل أهمية مماثلة لا يمكن تجاهلها.
تساهم عمليات إعادة التدوير في خلق أسواق جديدة وخلق قيمة مضافة وتعزيز فرص العمل في قطاعات متنوعة مثل الهندسة والتكنولوجيا والتصنيع. إضافةً إلى ذلك، يؤدي إنشاء مرافق مخصصة لإعادة التدوير إلى توفير وظائف مستدامة، وتقليل الاعتماد على المواد الخام الطبيعية، وخفض تكاليف التخلص من النفايات، كما يسهم ذلك بشكل مباشر في زيادة ربحية مشاريع البناء من خلال تحسين كفاءة الموارد وتخفيف الأعباء المالية المتعلقة بإدارة النفايات.
يقف قطاع الإنشاءات في دولة الإمارات عند نقطة تحول مهمة، حيث يواجه تحديات كبيرة ناجمة عن مخلفات البناء، لكنه يتمتع بفرص هائلة لتحقيق الابتكار وتعزيز الاستدامة ودفع عجلة النمو الاقتصادي. إن التحول من الاقتصاد التقليدي إلى الاقتصاد الدائري في قطاع البناء لا يقتصر على تقليل التأثير البيئي للمخلفات، بل يسهم أيضاً في تعزيز مكانة دولة الإمارات كإحدى الدول الرائدة عالمياً في مجال التنمية المستدامة. يفتح هذا النهج آفاقاً جديدةً للتطوير، ويرسخ ريادة الإمارات في تبني أفضل الممارسات المستدامة على مستوى العالم.