هل تنجح الفائدة السالبة في تحفيز الاقتصاد الحقيقي؟
هل تنجح الفائدة السالبة في تحفيز الاقتصاد الحقيقي؟
- كريم الحسنية
كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن احتمال اتباع الفيدرالي الأميركي سياسة أسعار الفائدة السالبة، كوسيلة لإنقاذ ما أمكن من الاقتصاد.
وعلى الرغم من عدم ثبات فعاليتها، فإن الفائدة السالبة، تحوّلت خلال السنوات الماضية، إلى جزء من الواقع الاقتصادي وإحدى أدوات السياسات النقدية المتبعة من قبل بعض البنوك المركزية، كذلك فإن فهم هذه الفائدة يحتّم مراقبة تداعياتها على مستويات عدة في إطار محاولة للتوصل إلى استنتاج عن مدى صحة اتّباعها، وهذه مهمة صعبة نظراً إلى قصر فترة تواجد هذه السياسة نسبياً ما يجعل المعطيات قليلة، وربما غير كافية لحسم الجدال حول ما إذا كانت سياسة أسعار الفائدة السالبة وسيلة فعّالة لدعم النمو الاقتصادي، أم لا.
قبل المضي قدماً في الكلام عن تداعيات سياسة الفائدة السالبة، يجدر النظر إلى سببين مباشرين دفعا البنوك المركزية إلى اتّباع هذه السياسة: وضع نسبة التضخم عند المستوى المطلوب، والحفاظ على سعر صرف معيّن في مقابل عملة أخرى. وهنا يمكن الإشارة إلى ان المركزي الأوروبي هو مثال على اتباع سياسة الفائدة السالبة لتحقيق نسبة التضخم المطلوبة، لكن في المقابل، فإن المركزيين السويسري والدنماركي اتّبعاها للحفاظ على مستويات معينة لسعر صرف عملتيهما في مقابل اليورو (اضطر المركزي السويسري إلى تخفيض أسعار الفائدة لوضع حدّ لارتفاعه مقابل اليورو)، أمّا اليابان والسويد، فدفعهما السببان معاً، أي استهداف نسبة تضخم معيّنة، ومستوى سعر صرف لاتّباع الفائدة السالبة.
وفي قراءة للمعطيات المتوافرة حول أداء المصارف المركزية، يمكن تسجيل ثلاثة مستويات لتداعيات الفائدة السالبة شملت آثارها البنوك وأسواق المال وسعر العملات.
البنوك
تأتي البنوك في صلب معادلة سياسة أسعار الفائدة، ذلك انه في مناخ أسعار فائدة منخفضة تتقلص هوامش صافي الفائدة (net interest margin) لدى البنوك، أي الفارق ما بين أسعار الفائدة التي يتقاضاها البنوك مقابل الإقراض، وأسعار الفائدة التي تدفعها البنوك على الودائع. ويؤدي هذا الانخفاض في الربحية إلى امتناع البنوك عن الإقراض تفادياً لتكبّد مخاطر مقابل مردود منخفض، وتفضيل إيداع المال في المصرف المركزي، يتّجه حينها المركزي إلى فرض فائدة سالبة على ودائع البنوك الفائضة (excess reserves) لديه، بهدف إجبارها على إقراض هذه المبالغ وخلق النمو من خلال توفير رأس المال في السوق وتحفيز الطلب.
لكن يبقى هذا الطريق لسير الأحداث غير مضمون فعلياً، لأن البنوك قد تواجه هذه الضغوطات بطرق عدة، أوّلها الامتناع أصلاً عن ايداع الفائض لديها في المصرف المركزي، بل تحتفظ به نقداً في مخازنها مما يرفع حسابها النقدي على مراكزها المالية، ما يسمّى liquidity trap.
ومن الجدير ذكره، أنه حتى سندات الخزينة تكون عوائدها أصبحت منخفضة جداً وسالبة في غالبية الوقت، وهو دافع اضافي لتحتفظ البنوك بالنقد بدلاً من استثمارها في تلك الأدوات كما هي الحال تقليدياً.
من هنا يتّضح أن غاية المركزي لا تتحقّق بسهولة الّا إذا ابتكر طرقاً أخرى لإجبار البنوك على عدم ابقاء النقد بل اقراضه، ومن غير المستبعد انخفاض معدلات نمو القروض نتيجة الضغوطات التي تلحق بالقطاع المصرفي من جرّاء تلك السياسة.
ومن ناحية أخرى، تسعى البنوك إلى ابتكار طرق لخلق ايرادات جديدة (البنوك معروفة بقدرتها على الابتكار) تعوّض الخسائر الناتجة عن انخفاض الفائدة، وتكون على شكل رسوم أعلى على الخدمات وتأتي على حساب المودعين من أفراد وشركات.
يمتدّ التأثير على الأفراد الذين سوف يمتنعون عن ترك أموالهم في البنوك، علماً أنها عادة ما تحدّ من سعر الفائدة على ودائع الأفراد بصفر ولا تأخذه الى المنطقة السالبة لعدم خسارة مودعيها الأفراد، الّا أن وجود الرسوم المفروضة على الخدمات، يدفع الأفراد إلى تخزين مدخراتهم في منازلهم وتوفير كلفة تركها في البنوك. أمّا على مستوى الشركات والمؤسسات، فمن الأسهل فرض البنوك الفائدة السالبة على حساباتها، نظراً إلى صعوبة استغناء الشركات كلياً عن خدمات البنوك، الًا أن هناك تبعات لإجراءات البنوك هذه، وهي توجّه الشركات إلى تقليل مستويات الودائع لديها وإعطائها في المقابل إلى المساهمين عن طريق توزيعات أو شراء الشركة لأسهمها ما يجعل سوق أسهم الشركات التي تمتاز بالسيولة أكثر جاذبية.
أسواق المال
تؤثر أسعار الفائدة على مستويين بالنسبة إلى أسواق المال، الأول هو تقييم أسعار الأدوات المالية، بحيث تساهم أسعار الفائدة المنخفضة في رفع الأسعار، وهو ما حصل في أسواق الاقتصادات التي شهدت أسعار فائدة سالبة أيضاً، فارتفعت سوق الأسهم وسوق السندات بشكل متزامن تقريباً، أما المستوى الثاني فهو ظاهرة إعادة توزيع رأس المال بحيث ينتقل إلى الأسواق التي تمنح عائداً أعلى في مقابل المزيد من المخاطر، ويكون الانتقال من النقد (حسابات مصرفية)، إلى أسواق السندات، ومن ثم إلى الأسهم بحثاً عن عوائد أعلى، ليصل إلى أسواق الاستثمارات غير التقليدية (alternative investments)، والتي تتخطى عوائدها أسواق الأسهم مقابل مستويات أعلى من الخطورة.
سعر العملات
تؤثر عوامل عدة على مستويات أسعار العملات ومن الصعب تحديدها إلا أنه يمكن القول إن سياسة أسعار الفائدة تنجح عادة في التأثير على سعر الصرف من خلال التأثير على حركة تدفّق رؤوس الأموال بين الاقتصادات، فعندما يخفّض المركزي أسعار الفائدة في بلد معيّن، يتدفّق رأس المال الى الخارج بحثاً عن عائد أعلى مما يضغط على سعر صرف العملة ويخفّضها.
نظرياً، وبشكل مبسط، تسعى سياسة الفائدة السالبة إلى تحفيز الإقراض ومعاقبة ايداع وادّخار المال بغية رفع مستوى الاستهلاك لإعادة إحياء الاقتصاد، إلّا أنه فعلياً، يتجه الأفراد إلى رفع قيمة الادّخار كردّة فعل على تآكل مستويات ودائعهم بسبب عدم تقاضيها مردود الفائدة. ويفسّر رفع نسب الادّخار بواقع أن الأفراد عادة ما يسعون الى بلوغ قيمة مستهدفة خلال مدة زمنية معيّنة (لشراء منزل، تقاعد...)، فتصبح مهمتهم أصعب مع انخفاض أو حتى انعدام عوائدهم، وتكون بذلك سياسة أسعار الفائدة قد ارتدّت عن غايتها الأساسية وفشلت في رفع نسب الاستهلاك بل وعلى العكس، ساهمت في زيادة الادّخار ممّا يعيق ارتفاع الطلب الحقيقي بالاقتصاد ويقوّض نموه.
انتظار وترقب
ولربما البنوك المركزية المشار اليها سابقاً، والتي اتّبعت هذا النهج من قبل، مثال على عدم فعاليته، لأن دول تلك البنوك كانت تعاني من ضعف ملحوظ في مستوى النمو حتى منذ ما قبل أزمة فيروس كورونا، فهي فشلت في الوصول إلى مستويات التضخم المطلوبة وإعادة إحياء الطلب.
الأكثر قراءة
-
المركزي الصيني: 98.5 مليار دولار تسهيلات إقراض متوسط الاجل
-
الخزانة الأميركية تعتزم بيع سندات طويلة الأجل بـ 183 مليار دولار الأسبوع المقبل
-
"جلف كابيتال" قوة استثمارية مؤثرة في الخليج وآسيا
-
ماذا تتضمن نشرة الإحصاءات الزراعية في السعودية لعام 2023؟
-
قطر: شراكة بين وزارة الاتصالات و"ستارتب جرايندر" لتعزيز الابتكار وريادة الأعمال