المنتدى الحضري العالمي: هكذا تصبح المدن ذكية

  • 2020-02-24
  • 09:56

المنتدى الحضري العالمي: هكذا تصبح المدن ذكية

الدورة العاشرة في أبوظبي تعرض تجارب عربية في استخدام الذكاء الاصطناعي

  • أبوظبي - سليمان عوده

لم تُبن باريس بين ليلة وضحاها، لكن هذا تقريباً ما حدث في شنزن. الحاضرة الصينية التي يقطنها 12 مليون نسمة، كانت في سبعينيات القرن الماضي قرية للصيادين. تقدم شنزن مثالاً على وتيرة التحضر الذي يجتاح العالم، حيث تدخل المجتمعات على نحو متزايد في عملية تمدن سريعة، تجلب معها الكثير من التحديات. وبشكل يومي، تُزال الغابات وتجرف الأراضي الزراعية في البلدان النامية والناشئة، لتحل مكانها الأبراج الشاهقة والطرق السريعة والمطارات وغيرها من المرافق العامة، في عملية تخلق بانتظام تعقيداتها الخاصة.

تشير بيانات عرضت خلال الدورة العاشرة من "المنتدى الحضري العالمي" الذي استضافته أبوظبي حديثاً إلى أنَّ العالم يضم عشرة آلاف مدينة كبرى. لكن نصفها على الأقل لم يكن موجوداً قبل 40 سنة، بحسب لويس ديكسترا، وهو باحث قاد لحساب الاتحاد الأوروبي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية فريقاً من الدارسين، خلص بعد أربع سنوات من العمل المتواصل، إلى أن نصف المناطق الحضرية استحدث في العقود الأربعة الأخيرة. ويضيف: "بحلول العام 2015، كان 48 بالمئة من سكان المعمورة يقطنون المدن، ومن المرجح أن يرتفع الرقم في العقدين القادمين إلى 70 في المئة". 

تعيِّن الدراسة، التي أجرتها مجموعة من حملة الدكتوراه، مفهوماً جديداً للمدينة. الوصف بات ينطبق على كل تجمع سكاني يتألف من 50 ألف شخص، بشرط ألا تقل الكثافة السكانية عن 1500 نسمة في الكيلومتر المربع. بموجب التصنيف الجديد، تأخر العالم عقداً كي يتجاوز عدد قاطني المدن عدد قاطني الأرياف، وهي عتبة اعتبرت الأمم المتحدة أن العالم كان قد اجتازها في 2007. يقول رئيس قسم الدراسات الحضرية في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية روديغر آرند إن "هذا التعريف الجديد يفسح المجال أمام الكثير من التجمعات الحضرية لتحصل على اعتراف أكبر باحتياجاتها، وبالتالي أن تحظى بتمويل حكومي أعلى". 

مستقبل المدن

مثلما ينطوي التحضر السريع على فرص، فإنه ينطوي على تحديات أيضاً. اكتظاظ السكان يولد مشكلات كبرى، تزداد حدتها في الدول النامية التي تعاني من شح الموارد واتساع هوة الدخل بين الفقراء والأثرياء وضرورات توفير وحدات سكنية إضافية بانتظام، وبناء مرافق عامة جديدة، فضلاً عن وقف تفاقم المشاكل البيئية والصحية. في المقابل، تجعل آثار التوسع الحضري السريع المدن غير قادرة على استيعاب الأعداد الهائلة من السيارات والركاب. وتتجاوز تحديات التنقل مسألة الازدحام إلى وجوب خلق روابط سهلة وموثوقة وفعالة بين المنزل والعمل والمجالات الأخرى. يقول سامح وهبة، المدير العالمي للممارسات العالمية الاجتماعية والريفية والحضرية والمرونة في البنك الدولي: "خلال العقود الثلاثة المقبلة، من المتوقع أن يزداد سكان المدن بنحو 2.5 مليار نسمة، وهو ما يقرب من ضعف عدد سكان الصين حالياً. وكمكون حيوي للاتصال، والصحة العامة، والرفاه الاجتماعي، والتنمية الاقتصادية، فإن البنية التحتية بكافة أشكالها، من أساسية إلى اجتماعية واقتصادية، مهمة للغاية لنمو المدن المرتقب". 

إن إيجاد حل لمشكلات المدن الكبيرة ليس بالعملية السهلة، لكنه يُعد عاملاً محدِّداً لمستقبل هذه المدن. بحسب أليس تشارلز، رئيسة "مجموعة تطوير المدن والبنية التحتية والخدمات الحضرية" في "المنتدى الاقتصادي العالمي" في جنيف، سويسرا، فإن "مستقبل المدن يعتمد اعتماداً كبيراً على طريقة إدارة التوسع الحضري، وكيفية تعزيز التعاون بين القطاعين العام والخاص، لتنفيذ أهداف التنمية المستدامة والأجندة الحضرية الجديدة التي أعلن عنها في المنتدى الحضري العالمي 2020 في أبوظبي". تضيف تشارلز، التي شاركت في إحدى جلسات الدورة العاشرة من "المنتدى الحضري العالمي" في العاصمة الإماراتية، أنه "على الحكومات وقطاع الأعمال والمجتمع المدني والأوساط الأكاديمية التعاون من أجل تهيئة البيئة المواتية اللازمة لتطوير مجموعة من المشاريع القابلة للنجاح والقادرة على جذب الاستثمار وتحقيق تنمية حضرية مستدامة في المدن حول العالم". 

تتطلب إدارة مماثلة تمويلاً جيداً في المقام الأول، لا تستطيع تدبره غالباً إلا الحكومات أو الجهات الرسمية المسؤولة، وربما بالشراكة مع القطاع الخاص. يقول رئيس قطاع المدن والحكومات المحلية في "بي دبليو سي" العالمية حازم جلال: "إذا أرادت المدن تحقيق أهداف التنمية المستدامة، فإنها ستحتاج إلى بناء العديد من القدرات الداخلية، بما في ذلك الحصول على التمويل". وقد بحثت الدورة العاشرة من "المنتدى الحضري العالمي" كيف يمكن للمدن توطين تنفيذ أهداف التنمية المستدامة ومعالجة التحديات الرئيسية التي تواجهها، بما في ذلك الحصول على التمويل. يقول جلال: "يمكن للمدن اعتماد حلول مبتكرة وبناء شراكات مع القطاع الخاص والمؤسسات المالية الدولية متعددة الأطراف وغيرها من مصادر التمويل من أجل تمويل مشاريعها الهامة في مجالي التنمية الاجتماعية والاقتصادية والبنية التحتية". 

حلول تكنولوجية

يراهن كثير من الخبراء على أن استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي ستتيح لمخططي المدن الذكية ومشغليها القدرة على توفير شبكات التنقل الذكية وإيجاد العديد من الحلول الأخرى التي تسهل حياة قاطني المدن. وتقدم التكنولوجيا مجموعة من الطرق الجديدة لمعالجة بعض أكثر القضايا إلحاحاً التي تواجهها المدن المعاصرة. في ظل ازدياد عدد السكان في المناطق الحضرية، بات من الضروري، بحسب ديكسترا، "التركيز على الكيفية التي يمكن من خلالها أن يساعد الابتكار التكنولوجي في تحقيق مستقبل مستدام". يضيف: “يساعد الابتكار التكنولوجي على تقديم الحلول لمعظم المشاكل التي تواجه المدن الحديثة”. وراهناً، بات يعول على الذكاء الاصطناعي على وجه التحديد ليحل أعقد المشاكل التي تعترض المدن، في سياق تحضرها السريع.

يوفر مزيج الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء تحليلًا للبيانات ضرورياً لتقييم دقيق يشرح طريقة وتوقيت السفر، ويساعد في تطوير شبكات التنقل الذكية. لا يفضي ذلك إلى تصميم شبكات نقل أفضل فحسب، بل يخفف أيضاً من مشكلات مواقف السيارات، ويحسن من كفاءة أعمال الصيانة والترميم مع تقليل آثارها السلبية على السكان. تقدم دبي مثالاً إيجابياً على كيفية تسخير الذكاء الاصطناعي لإدارة التوسع الحضري. تتطلع استراتيجية دبي للنقل الذكي ذاتي القيادة إلى تحويل ربع المركبات في الإمارة إلى مركبات ذاتية القيادة بعد عقد واحد من الآن. وتشير التقديرات إلى أن اتباع استراتيجية مماثلة سيؤدي في نهاية المطاف إلى تحقيق وفورات بقيمة 7 مليارات دولار سنوياً، يفيد منها العديد من القطاعات، سواء من خلال خفض تكاليف النقل وانبعاثات الكربون والحوادث، أو عبر رفع إنتاجية الأفراد، فضلاً عن حسن استخدام مئات الملايين من الساعات المهدورة سنوياً في وسائل النقل التقليدية. وتفيد بيانات المشروع التقديرية بأن أنظمة النقل المستقلة التي يسيطر عليها الذكاء الاصطناعي ستتعامل مع أكثر من خمسة ملايين رحلة يومياً عند اكتمالها. 

نقل عربي ذكي

في السياق نفسه، شهدت الأعوام الأخيرة توجهاً ملحوظاً لإدخال المركبات الذكية والمستدامة إلى شوارع الإمارات، إلى جانب تنفيذ عدد من المبادرات الرامية إلى تطوير المركبات الصديقة للبيئة، في مسعى طموح للحفاظ على البيئة وتعزيز اقتصاد المعرفة. في آذار/مارس 2019، كشفت مجموعة "سيف سيتي" الإماراتية عن سيارتها الكهربائية ذاتية القيادة المعتمدة على تقنيات الذكاء الاصطناعي، وقد صمَّمها وصنَّعها بالكامل مهندسون وفنيون إماراتيون. وتسير السيارة التجريبية لمسافة 700 كيلومتر بشحنة كهرباء واحدة، وتصل سرعتها إلى 120 كيلومتراً في الساعة. وفي نيسان/أبريل من العام ذاته، أطلقت هيئة الطرق والمواصلات في دبي التشغيل التجريبي لسيارة أجرة ذاتية القيادة، في مبادرة هي الأولى من نوعها في العالم العربي. وقد طورت السيارة بالشراكة مع واحة دبي للسيليكون، وهي تشغل تجريبياً في مسارات محددة، وتصل سرعتها إلى 35 كيلومتراً في الساعة، وتستوعب أربعة ركاب. وفي أيار/مايو 2019، طورت إمارة عجمان حافلة نقل عام ذاتية القيادة للسير في شوارعها، في مبادرة هي الأولى من نوعها في الإمارة. ويُتوقَّع أن تبدأ مؤسسة مواصلات عجمان في العام الحالي بتشغيل أربعٍ حافلات ذاتية القيادة طورتها شركة دي جي وورلد الإماراتية، وذلك في مسارات محددة في الإمارة. وأعلنت السعودية والإمارات منتصف العام الماضي عن تسيير سيارات شحن بضائع ذاتية القيادة، للمرة الأولى في شوارع الدولتين، بشراكة بين منصة التجارة الإلكترونية "نون" وشركة "نيوليكس" الصينية، في إطار خطة لتسليم ألف مركبة من هذا النوع خلال العام الأول من الإنتاج. وفي حال نجحت هذه التجارب، ستوفر سيارات الأجرة ذاتية القيادة حلاً يتم اعتماده في أنظمة مترو وترام دبي. وتتطلع هيئة الطرق والمواصلات لإنشاء شبكة خاصة معلقة لنقل الركاب تصل بين أبراج المدينة الشاهقة على طول شارع الشيخ زايد في دبي. وتجمع هذه الشبكة بين مزايا المركبة الكهربائية والمزايا الرياضية والترفيهية. وتصل سعة كل وحدة نقل إلى خمسة أشخاص، وتنطلق بسرعة تصل إلى 150 كيلومتراً في الساعة. 

تأمين المدينة الذكية

حلول الذكاء الاصطناعي يمكن الإفادة منها أيضاً في تأمين المدن الحديثة. تشير التقديرات إلى أن معدل جرائم المعلوماتية يواصل الارتفاع على الصعيد العالمي، حيث تخطت الكلفة السنوية للجرائم المعلوماتية 600 مليار دولار عالمياً بين عامي 2014 و2017 بحسب بيانات نشرت خلال "أسبوع أبوظبي للاستدامة" الذي عقد في العاصمة الإماراتية الشهر الماضي. تنظر الحكومات إلى هذا التهديد الحالي والمتطور بعناية، بحيث أطلقت الإمارات مثلاً "الاستراتيجية الوطنية للأمن السيبراني"، وتهدف إلى خلق بيئة سيبرانية آمنة ومرنة تساعد على تعزيز الأمان المديني وتمكين الشركات من التطور والنمو. وتعمل هذه الاستراتيجية على تعزيز المنظومة المتكاملة للأمن السيبراني من خلال تنفيذ 60 مبادرة في خمسة محاور: وضع قوانين ولوائح الأمن السيبراني تتضمن رفع جاهزية أمن الشركات الصغيرة والمتوسطة من خلال توجيهات غير ملزمة، وإلزام موردي الجهات الحكومية بحيازة شهادة تطبيق الأمن السيبراني، وتطوير بوابة موحدة للشركات الصغيرة والمتوسطة لتمكينها من تنفيذ المعايير والمواصفات اللازمة، وتأسيس بيئة حيوية تتضمن حماية التكنولوجيا الحالية والناشئة، وتحديث خطة الاستجابة مع الحوادث السيبرانية. 

حماية المدينة الذكية

تواجه المدن جميع أنواع التهديدات بشكل يومي. تقول تشارلز: “أثبت الذكاء الاصطناعي أنه يقدم خدمات لا تقدر بثمن في مكافحة الجريمة والتهديدات الأخرى، من خلال حلول المراقبة في الوقت الحقيقي والقدرة على التحليل وتعزيز قدرات اتخاذ القرار”. فمن خلال جمع البيانات المأخوذة من شبكة المدينة عبر الأجهزة المترابطة، والكاميرات، وأجهزة الاستشعار، والطائرات من دون طيار، تستطيع حلول الذكاء الاصطناعي تزويد الإنسان بالمعلومات التي يحتاج إليها في وقت قصير، بحسب ما يورد تقرير نشر خلال “أسبوع أبوظبي للاستدامة 2020”. وإذا نظرنا إلى المستقبل، يقول التقرير، نجد أن حلول الذكاء الاصطناعي المتطورة بشكل متزايد ستكون قادرة على التقييم ثم التصرف بشكل مستقل سريعاً. الأحدث في هذا المجال الدراجات الطائرة التي قد تدخل الخدمة الفعلية في دبي خلال العام الجاري. ستكون هذه المركبات قادرة على الوصول إلى سرعة مئة كيلومتر في الساعة وبإمكانها أن تحوم على ارتفاع يصل إلى خمسة أمتار فوق الأرض. 

الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المرتبطة به يفرض أيضاً تحسينات كبيرة في القدرة على الاستدامة في المباني ومرافق البنية التحتية. فالذكاء الاصطناعي قادر على تحليل استخدام كل وحدة من وحدات الإضاءة والصنابير وحدات التدفئة والتهوية وتكييف الهواء وحتى واجهة المبنى ذاتها، ما يساعد في تلبية احتياجات وتفضيلات السكان مع التخلص من المواقف المهدَرة أو الخطرة عن طريق إغلاق العناصر التي ليست قيد الاستخدام. يوفر الذكاء الاصطناعي، بحسب التقرير نفسه الصادر عن "أسبوع أبوظبي للاستدامة 2020، أحدث إجراءات الوقاية والسلامة، بالإضافة إلى مراقبة التهديدات الأخرى. ومن الأمثلة على ذلك، إعلان شركة "بيئة" أن كل مساحات وأنظمة مقرها الجديد في الشارقة ستكون مجهزةً بتقنية الذكاء الاصطناعي. 

تخطيط مستدام

يلجأ مصممو المدن إلى الذكاء الاصطناعي لكشف أسرار التخطيط الحضري المستدام الذي يشمل الأنشطة اليومية لملايين السكان. ويمكن الذكاء الاصطناعي دمج البيانات من كاميرات التتبع، والمقاييس الذكية، وأجهزة الاستشعار وأجهزة المراقبة بكل أنواعها لبناء صورة أكثر دقة عن كيفية استخدام الناس للمدن. ويمكن الذكاء الاصطناعي قراءة لوحات الترخيص والتعرف على الوجوه بمعدل آلاف المرات في الساعة. هذا بالضبط ما تعمل عليه شرطة أبوظبي، التي عرضت في الأسبوع الأخير من شباط/فبراير الحالي سياراتها الجديدة المزودة بهذه الخاصية على هامش معرض "الأنظمة غير المأهولة والمحاكاة والتدريب" الذي عقد في أبوظبي. يمكن لأنظمة مماثلة تتبع حركات وتفاعلات واحتياجات وتفضيلات سكان المدينة وزوارها للمساعدة في التقدير التام لكيفية تصميم وبناء تجهيزات حضرية أفضل تعمل للجميع مع تقليل تأثيرها البيئي. وبناء على ذلك أيضاً، أطلقت "حكومة دبي الذكية" أول مختبر لعلوم البيانات من نوعه يعمل مع شبكة متنامية من الشركاء من مختلف القطاعات الحكومية والخاصة. وسيعتمد هذا المختبر تحليل البيانات باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، ومن خلاله سيطور خبراء البيانات وأصحاب الأعمال الأفكار المختصرة بتفاصيل أكثر، قبل الانتقال، أخيراً، إلى المرحلة النهائية، التي يتم خلالها استخدام أدوات ومنصات مختبر علوم البيانات لتنفيذ حالات الاستخدام. كما يشتمل المختبر على مرحلة التنسيق وبناء القدرات للوصول إلى مدينة ذكية وآمنة للجميع.