أي رثاء منصف للسلطان قابوس بن سعيد بن تيمور يحتاج إلى مساحة تتسع لمراحل سيرته الطويلة وخصاله وإنجازاته والمواقف التاريخية التي تخللت عهده الطويل، وأقل ما يقال فيه إنه المؤسس الحقيقي لسلطنة عُمان، وأنه يغادر الدنيا وقد خلف لشعب عُمان دولة حديثة بمؤسسات فاعلة واقتصاد حديث يتمتع بأفضل البنى التحتية وبمدن جميلة وقطاع نفطي مزدهر وسياحة متطورة وتعليم متقدم وخدمات صحية ومعالم ثقافية وأمن مستتب وصداقات حول العالم.
عندما أرسله والده المرحوم السلطان سعيد بن تيمور إلى مدرسة خاصة في بريطانيا، وهو في سن السادسة عشرة، كانت عُمان قد استقرت عبر السنين على هامش حركة التطور التي نشطت في كل بلدان الخليج في أواخر الخمسينات، وكانت مسقط العاصمة لا تزال عبارة عن مدينة بأسوار وبوابات تغلق في المساء، وكانت عُمان كلها بلا طرق معبّدة باستثناء طريق بطول 6 كيلومترات حول القصر السلطاني، ولم يكن في الدولة خدمات تعليم أو صحة وكان الناس فقراء يعيشون بصورة خاصة على الزراعة والأسماك والتجارة المحلية.
انتقل الشاب وهو في سن العشرين إلى الكلية الحربية البريطانية الشهيرة في ساندهيرست ليتخرج بعد سنتين ضابطاً، وليخضع بعد تخرجه لتدريب عملي كضابط ضمن القوة البريطانية في ألمانيا (الغربية آنذاك)، ثم عاد إلى بريطانيا ليتلقى دروسا في الإدارة الحكومية أتبعها بجولة في العالم أراد منها الاطلاع على المجتمعات الغربية وعلى نظم عملها، كما درس في الوقت نفسه الإسلام وتاريخ عُمان والمنطقة.
عندما عاد إلى عُمان سنة 1966 كان قد بلور مشروعا متكاملا لنقل بلاده من حال التأخر والعزلة لتكون بلدا متقدما له وزنه في الجغرافيا الإقليمية، إلا أنه أدرك على الفور الهوة بين طموحه وبين أسلوب الحكم الذي كان متبعا من والده، كما أن الوالد المحافظ أدرك بدوره الاختلاف الكبير في الرؤية لاسيما بعد أن بدأ الأمير قابوس يجاهر بضرورة التطور وإصلاح أوضاع السلطنة، لذلك قرر السلطان سعيد وضع ولي عهده على هامش الحكم وحصر دوره في ما كان يصله من بعض المستشارين من معلومات أو تطورات في السلطنة.
لكن قابوس الذي اعتبر أن الوقت مهم وأن عليه الشروع فوراً في تحديث السلطنة أزاح والده وتولى حكم السلطنة العام 1970 لتدخل عُمان في ظل نصف قرن من حكمه الرشيد عهداً ذهبياً نقلها إلى صف المجتمعات النامية والمتطورة. وقد أنجز قابوس كل ما أنجزه لكن مع التوفيق بين التقدم الاقتصادي والاجتماعي وبين الإرث الثقافي والتاريخي للمجتمع العُماني فحقق بذلك عملية توازن دقيقة تعتبر من التجارب الحرية بالدرس.
أحد المؤشرات على الوضع الذي كانت عليه عُمان عشية اعتلاء السلطان قابوس العرش أنها كانت لا تزال تضم بين سكانها عبيداً فكان أول قرار اتخذه السلطان هو إلغاء العبودية، وفي مقابل مناخ التشدد الديني الذي كان سائداً طبق السلطان سياسة الحريات الدينية وموّل بناء الكنائس الكاثوليكية والبروتستانتية ومعابد الهنود، وأظهر السلطان اهتماما خاصا بالثقافة، وكان شغوفا بالموسيقى الكلاسيكية، فأنشأ مسرحاً للأوبرا يتسع لألف شخص ويضم أكبر آلة أرغن متحرك في العالم كما أسس الفرقة السمفونية العُمانية.
في المقابل، وبسبب التركيبة القبلية للمجتمع العُماني كما المجتمعات الخليجية الأخرى وحداثة المجتمع بالأحكام، طبّق السلطان نظام حكم يقوم على الملكية المطلقة وحصر السلطات الأساسية في يده، فكان رئيس الوزراء ووزير الدفاع وقائد القوات المسلحة ووزير الخارجية ومحافظ البنك المركزي، وكان يصدر التشريعات ويعين القضاة ويوجه كافة مستويات الدولة عند الحاجة.
على الصعيد الاقتصادي اشتهر قابوس باستخدام ثروة النفط المتواضعة التي توافرت لبلاده بعقلانية وفعالية كبيرة وتوفير بنى تحتية حديثة مثل شبكات الطرق والموانئ والمطارات والمستشفيات وجامعات أفضل مستويات التعليم والرعاية الصحية وبناء إدارة حديثة تميزت بدرجة عالية من الانضباط.
على الصعيد السياسي تفرّدت عُمان في ظل السلطان قابوس بسياسة جمع الشمل في الداخل واستقطاب المعارضين السابقين وتسليمهم مهام حكومية. كما تميزت في النطاق الخارجي بنظرة متوازنة ومعتدلة إلى السياسة الخارجية والعلاقات بين الدول، وهي اجتنبت الخصومات وسياسات الشعارات، وآمنت بفائدة علاقات الاحترام المتبادل وتطوير العلاقات التجارية، كما تمكنت بسبب حيادها السياسي من لعب أدوار كثيرة مفيدة في حلحلة النزاعات أو معالجة الملفات الخلافية. من أشهر مواقف السلطان قابوس رفضه بإصرار قرارات الجامعة العربية بعزل مصر بعد توقيع السادات على اتفاقات كامب دايفيد.
أخيراً، فإن السلطان قابوس يترك للأجيال التالية وخليفته السلطان هيثم بن طارق أمانة كبيرة وعدداً من الملفات المهمة التي برزت في سياق التطور الاقتصادي وأهمها توفير فرص العمل لعدد كبير من الشباب العُمانيين وضمان استدامة النمو وتطوير القطاعات الاقتصادية المنتجة بغية تخفيف الاعتماد على النفط والغاز.