كيف ستواجه صناديق التقاعد الخليجية الاستحقاقات المستقبلية؟
كيف ستواجه صناديق التقاعد الخليجية الاستحقاقات المستقبلية؟
- رانيا غانم
تواجه منظومة التقاعد في البلدان العربية بشكل عام، وفي دول الخليج، تحديات مختلفة فرضتها عوامل عدة بينها المتغيرات الديموغرافية المتمثلة بتناقص معدّل الولادات في الأسرة، وتبدّل التعامل مع هذه الصناديق من قبل الجهات الرسمية لاعتبارات متعلقة باستقرار العمالة . وقد أدت هذه المتغيرات إلى الحد، بطريقة أو بأخرى، من نمو دخل الصناديق، ما اضطر الحكومات إلى سد عجز صناديقها باللجوء إلى ميزانياتها العامة.
ومع هذه التغيرات تبرز في دول الخليج الحاجة إلى بلورة سياسة عامة للتعامل مع صناديق التقاعد، تنطلق أساساً من إعادة النظر بعمل هذه الصناديق، وربما إعادة هيكلتها لضمان وظيفتها الاجتماعية وتحقيق استقرارها المالي.
ومن أبرز الطروحات التي يجري العمل عليها حالياً، هي تلك التي تشمل رفع سن التقاعد المبكر وقيمة المساهمات المقتطعة شهرياً من المستفيدين، والتحوّل إلى أنظمة الاشتراكات المحددة (Defined contribution) التي تجمع أموال المشتركين وتستثمرها، على أن يتحمل الموظف أو المتقاعد المضمون على الأقل بعض المخاطر، بدلاً من أنظمة المزايا المحددة (Defined benefits) التي تضمن دخلاً محدداً مسبقاً.
وفي انتظار أي خطوات على طريق إعادة هيكلة صناديق التقاعد الخليجية، فإن أي بحث لواقع تلك الصناديق لا بد أن يمرّ في الأنظمة التي تحكمها وملاءتها مروراً بالتحديات المستقبلية وصولاً إلى إصلاح المنظومة.
واقع الصناديق
تفوق تقديمات الصناديق العربية السنوية في الغالب قيمة مداخيلها. في السعودية مثلاً، تشير بيانات صادرة عن مجلس الشورى السعودي إلى أن نفقات أنظمة التقاعد في السعودية قد تبلغ 9,4 في المئة من الناتج المحلي في 2050 في وقت يقدر العجز الإكتواري للصناديق السعودية بنحو 280 مليار ريال (75 مليار دولار). ويوجد في السعودية المؤسسة العامة للتقاعد لموظفي الدولة من العسكريين والمدنيين، والمؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية للقطاعين العام والخاص. ويتوقع تحليل لوكالة "ستاندر أند بورز" للتصنيفات الائتمانية، أن يشكل ازدياد عدد المتقدمين في السن من المستفيدين من صناديق التقاعد في العالم العربي ضغطاً على مالية هذه الصناديق خلال العقود الثلاثة المقبلة، ويحد من قدرتها على لعب دورها الاجتماعي والتنموي. ومن المأمول أن يدفع هذا الواقع إلى الإسراع في معالجة الأنظمة التقاعدية ما يكفل قدرتها على تحقيق التوازن بين دورها الاجتماعي واستدامة ماليتها.
.. وملاءتها
يبلغ إجمالي قيمة صناديق التقاعد في بلدان مجلس التعاون الخليجي نحو 400 مليار دولار، ويعتبر تقرير لشركة Ernst & Young الاستشارية العالمية حجم تلك الصناديق صغيراً مقارنة بالصناديق المشابهة في المملكة المتحدة مثلا، والذي يتخطى حجم أصولها حجم الناتج المحلي للبلاد، في حين لا يتعدى ربع الناتج المحلي الإجمالي لبلدان مجلس التعاون مجتمعة بحسب أرقام عام 2015. وتتمتع الكويت بأكبر صندوق من حيث رأس المال نسبة إلى عدد مواطنيها، يساعدها في ذلك مبادرة اتخذتها في العام 2008 لزيادة رأس مال الصندوق عبر مساهمات مباشرة من الميزانية السنوية للدولة. لكن الكويت تواجه تدني معدل مساهمة المستفيدين في الصناديق، في مقابل الارتفاع النسبي للمعاشات التقاعدية التي يتقاضونها، ما ينتج عجزاً يغطى من الخزانة العامة. علماً أن حكومة الكويت تساهم بنحو 3,3 مليار دولار سنوياً في المتوسط لدعم مالية صناديق التقاعد منذ 2008. ومن المرجح أن يتفاقم العجز مع ارتفاع نسبة المتقاعدين في مقابل عدد الموظفين المؤمن عليهم. وتحل قطر ثانية من حيث قيمة أصول صناديقها التقاعدية نسبة إلى مواطنيها، وتتولى الدولة تغذية هذه الصناديق من ميزانيتها منذ 2012. وتتمتع المملكة العربية السعودية بأكبر صندوق لتعويضات التقاعد من حيث الأصول الإجمالية. ويبلغ حجم صندوق المؤسسة العامة للضمان الاجتماعي في الأردن 15 مليار دولار، وفق أرقام المؤسسة لعام 2019. فيما تواجه البحرين والإمارات أيضا عجوزات اكتوارية في صناديق التقاعد العامة والخاصة تغطى من الموازنات العامة. وبلغ الفائض التراكمي في المؤسسة العامة للضمان الاجتماعي في الأردن 9.2 مليار دولار في عام 2019.
أنظمة التقاعد
هناك ثلاثة أنواع من أنظمة التقاعد هي الأكثر شيوعاً في العالم يوضحها الخبير الإكتواري إبراهيم مهنا كالتالي:
النوع الأول، الأكثر شيوعا في القطاع العام، وهو يعطي المتقاعد نسبة من راتبه مضروبة بعدد سنوات الخدمة. كما أن هذا النوع يقيم رابطاً بين عدد سنوات الخدمة والنسبة التي يتقاضاها المتقاعد من راتبه.
النوع الثاني، ويتمثل في صندوق تقاعد مهني (Occupation Pension Scheme) تكميلي يؤسسه رب العمل ويشرك فيه موظفيه. وهذا النوع من الصناديق يُنشأ غالباً من قبل النقابات المهنية والشركات الكبرى ولا يفيد الموظف من مزاياه إلا متى أكمل عدداً محدداً من سنوات العمل" وتعتمد بلدان أوروبا النوع الثاني من الصناديق، لأن تقديماتها لا تفوق مداخيلها بينما تتبنى النوع الأول من الصناديق بلدان مجلس التعاون الخليجي.
النوع الثالث، يعتمد على شركات التأمين الخاصة التي تقدم برامج تقاعد فردية. وبحسب مهنا فإن المستفيدين يلعبون دوراً أساسياً في تمويل هذا النوع من الصناديق.
التحديات المستقبلية
بحسب مهنا، الذي يشغل منصب رئيس مجلس أمناء مؤسسة مهنا، وهي مؤسسة لا تبتغي الربح وتعمل من بيروت على التعليم المستمر للمهنيين العاملين في البلديات والضمان الاجتماعي وصناديق التقاعد وصناعة التأمين، فإنه يمكن ردّ التحديات التي تواجهها صناديق التقاعد الخليجية إلى أسباب عدة أبرزها:
أولاً، التغيرات الديموغرافية إذ ارتفع متوسط الأعمار في السعودية من 56 عاماً في 1973 إلى 75 عاماً في 2015 وارتفع بالتالي معدل الاعتماد على الصناديق، فضلاً عن انخفاض معدل الخصوبة لدى المرأة السعودية من 7.3 أطفال إلى 2.04 أطفال في الفترة ذاتها، وفقاً للبنك الدولي. يقود ذلك إلى انخفاض عدد اشتراكات التقاعد المستقبلية نسبة إلى المتقاعدين.
ثانياً، الفرق الكبير بين المنافع والمزايا التي يقدمها الصندوق للمتقاعدين وبين نسبة اشتراكات الموظف وعوائد الصناديق. وتسمح السعودية بالتقاعد المبكر للموظف عند بلوغ سنوات خدمته عشرين عاماً، فضلاً عن أن السن النظامي للتقاعد يبلغ 58 عاماً.
ثالثاً، ارتفاع مستوى المنافع، إذا أن معدلات الاستقطاع لا تتخطى 18 في المئة، وبالتالي لا تتناسب مع مستوى المنافع.
رابعاً، تقييد قدرة مديري الصناديق على الاستثمار في أدوات مالية طويلة الأجل يمكن أن تحقق عوائد استثمارية أفضل.
خامساً، زيادة الرواتب.
ويضيف مهنا أن أكبر التحديات فيعدّ التقاعد المبكّر إذ ينمو عدد المتقاعدين في سن مبكرة بوتيرة متزايدة في السعودية، حيث ارتفع من 11 بالمئة في 2011 إلى 46 بالمئة في 2016، في وقت ألغيت فيه معظم أنظمة التقاعد المبكر في العالم بسبب تكاليفها المرتفعة. وعليه فإن التقاعد المبكر يشكّل تحدياً كبيراً لاستدامة صناديق التقاعد، إذ تبلغ تكلفته المجموع نسبة المتقاعدين مبكراً 48 بالمئة من إجمالي المتقاعدين في السعودية، ويتقاضون 73 بالمئة من إجمالي الرواتب المدفوعة مقابل 27 بالمئة فقط تذهب للذين أكملوا مدة العمل النظامية.
إصلاح المنظومة
اليوم يتجه العالم إلى إجراء إصلاحات في أنظمة التقاعد، وثمّة توصيات عدة في هذا السياق، أهمها:
أولاً، رفع سن التقاعد وتقنين أحكام التقاعد المبكّر مع الأخذ بعين الاعتبار التغييرات الديموغرافية المتوقعة ومتوسط الاعمار المستقبلي. ويعاب على هذه التوصية (الإصلاح) اعتماده على توقعات قد لا تصح مستقبلاً، وبالتالي تجعل تكلفة الإصلاح مرتفعة.
ثانياً، إعطاء الصلاحية الكافية للصناديق للتدخل في إعادة هيكلة منظومة المنافع والاشتراكات لمواكبة المتغيرات المستقبلية الطارئة، وهذه تبنتها دول بينها إيطاليا والسويد. وينبغي أن يترافق ذلك مع تحسين مستويات الافصاح لدى الصناديق وتعزيز مستوى التواصل مع أصحاب المصلحة المختلفين كي تتمكن الصناديق من تأدية دورها الاجتماعي والاقتصادي.
ثالثاً، خصخصة المنظومة وتحويلها إلى نظام الاشتراكات المحددة بدلاً من المنافع المحددة، بحيث يحصل المتقاعد على راتبه التقاعدي بناء على الاشتراكات المدفوعة وعوائدها بعد خصم التكاليف الإدارية، ما من شأنه نقل مخاطر التقلبات الاقتصادية من الحكومة إلى الفرد. تمزج التوصية الأخيرة بين نظام المنافع المحددة ونظام الاشتراكات المحددة كما هو معمول به في المملكة المتحدة، ويسمى نظام الشرائح المتعددة، بحيث يشترك المستفيد في أكثر من نظام تقاعدي بعضها إلزامي وبعضها اختياري سواء حكومي أو خاص. وينبغي على الحكومة عندما ترفع رواتب المستفيدين أن تعوض الصناديق عن الاشتراكات الفائتة.
رابعاً، تطوير برنامج اختياري للتقاعد محدد الاشتراكات وتدعم الحكومة الاشتراك فيه بدفع جزء من الاشتراك لذوي الدخل المحدود، سواء أكانت تلك البرامج تابعة لمؤسسة التقاعد الحكومية أأو الشركات المالية والتأمينية الخاصة. يشير مهنا إلى إمكانية اعتماد أنظمة تقاعد هجينة، تجمع ما بين نظام المساهمة المحددة، لكن على ألا تقل المنافع عن نسبة معينة وذلك للحفاظ على حد أدنى من أموال المؤمن عليهم وكي لا تذهب الأموال التي ساهموا بها سدى.
أهمية السياسة الاستثمارية
يخلص مهنا إلى القول إن السياسة الاستثمارية والأداء الذي يترتب عنها يلعبان دوراً كبيراً في استدامة الصناديق وملاءتها. ومن وجهة نظر مهنا فإن السياسة الاستثمارية المثلى لصناديق التقاعد المحددة المنافع يجب أن تعتمد على الخصائص الديموغرافية للبلد، بحيث ينبغي أن يتوافق العائد المستهدف مع المستوى المناسب للمخاطر. ويجب أن يزداد المدى الزمني للاستثمار ودرجة المخاطرة كلما انخفض معدل الاعتماد، بمعنى أنه كلما ازداد معدل الخصوبة وانخفض معدل الأعمار، يسمح للصناديق بأن تتحمل مخاطر أعلى. في السعودية لا يزال لدى الصناديق مساحة لرفع درجة المخاطرة خلال السنوات القريبة القادمة، وبالتالي تحقيق عوائد أعلى. ويشير مهنا إلى أن السياسات الاستثمارية للصندوق واضحة، وتحدد نسبة الاستثمارات في كل قطاع، ومنها الأسهم العالمية والأسهم المحلية والعقارات. يقول: "حين تكون غالبية المستفيدين ممن لم يبلغوا سن التقاعد بعد، يمكن أن يذهب الصندوق إلى استثمارات طويلة الأجل، والعكس صحيح".
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن المحافظ الاستثمارية كانت تركز في مراحل سابقة على الاستثمارات التقليدية كالأسهم والسندات والأصول النقدية، لكن أخيراً برز تحول يتمثل بالاتجاه إلى الاستثمار في العقارات وصناديق الملكية الخاصة والاستثمار الجريء. ويعود السبب في ذلك إلى ارتفاع عوائد هذه الاستثمارات مقارنة بالاستثمارات التقليدية. كما يسهم التنويع الجغرافي لمحفظة الاستثمار في الحد من المخاطر المحلية والإقليمية، ما قد يؤثر بشكل إيجابي على العوائد. وعليه، تشكل استثمارات المؤسسة السعودية العامة للتأمينات الاجتماعية الخارجية 35 في المئة من إجمالي المحفظة، وهو معدل مقارب لمتوسط حصة الاستثمارات الأجنبية لصناديق التقاعد عالمياً، وتبلغ 31 بالمئة.
في المحصلة، أثبت بعض الإصلاحات السالفة جدواه وفعاليته في دول عالمية عدة، ومنها عربية بينها الأردن حيث تمكنت المؤسسة العامة للضمان الاجتماعي من تحقيق فائض تراكمي في ميزانيتها بفضل إصلاحات ركزت على تحقيق التوازن بين الإيرادات والاشتراكات. وبادر الأردن خلال العام الماضي إلى تعديل قانون الضمان الاجتماعي عبر خطوات متنوعة. أما في مصر فقد عمدت الحكومة إلى تعديل قانون التقاعد حيث وضعت قاعدة واحدة لحساب الراتب لجميع فئات القوى العاملة، ووضع خطة لرفع سن الراتب التقاعدي لمعالجة العجز المالي وتخفيف العبء عن الخزانة العامة.
وفيما حققت الدولتان العربيتان (مصر والأردن) تقدّماً ملحوظاً في إصلاحاتهما، يبقى السؤال حول الخطوات التي قد تتخذها دول الخليج في مواجهة الاستحقاقات المستقبلية بهدف تعزيز صناديقها التقاعدية؟
- الأرقام الواردة في الرسوم البيانية هي بحسب الأرقام المعلنة لـ: المؤسسة العامة للتقاعد والمؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية في السعودية، الهيئة العامة للتأمين الاجتماعي في البحرين، الهيئة العامة للتقاعد والتأمينات الاجتماعية في قطر،الهيئة العامة للتأمينات الاجتماعية في عمان، المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية في الكويت، المؤسسة العامة للضمان الاجتماعي في الأردن.
الأكثر قراءة
-
المركزي الصيني: 98.5 مليار دولار تسهيلات إقراض متوسط الاجل
-
الخزانة الأميركية تعتزم بيع سندات طويلة الأجل بـ 183 مليار دولار الأسبوع المقبل
-
"جلف كابيتال" قوة استثمارية مؤثرة في الخليج وآسيا
-
ماذا تتضمن نشرة الإحصاءات الزراعية في السعودية لعام 2023؟
-
قطر: شراكة بين وزارة الاتصالات و"ستارتب جرايندر" لتعزيز الابتكار وريادة الأعمال