مناورة العملة أو ما يسمى أيضاً "ممارسات العملة غير العادلة" تعني بمفهومها الأساسي استعمال سعر العملة لتحقيق ميزة تفاضلية في التجارة الخارجية لدولة ما وذلك بشكل مقصود، علماً أن ميزة تفاضلية كهذه قد تحدث أيضاً بمعزل عن أي سياسة مقصودة ونتيجة لعوامل اقتصادية وتجارية بحتة.
تعديل سعر الصرف
فالسياسة المعتمدة في هذا المجال تأتي من قبل الحكومات ومن خلال البنوك المركزية في الدول المعنية وتستهدف بشكل خاص تعديل سعر صرف عملتها مقابل الدولار الأميركي الذي يشكل العملة أو الوحدة الأساسية في حركة التجارة والتدفقات النقدية والاستثمارية العالمية، لكن لا بدّ من التفريق هنا بين تخفيض سعر العملة كسياسة مقصودة أو مباشرة وبين انخفاض أيضاً قد ينتج عن سياسات نقدية ومالية تهدف فقط إلى تنشيط الاقتصاد أو التغلب على حالة ركود، وهي قد تشمل لا محالة اعتماد سياسة نقدية توسعية من خلال تخفيض سعر الفائدة المحلية، مما قد يؤدي بدوره إلى انخفاض سعر العملة المحلية مقابل الدولار كما العملات العالمية الأخرى.
وعملية "مناورة العملة" سهلة جداً حيث تقوم دولة ما ببيع عملتها في السوق مقابل الدولار بكمية كبيرة ويؤدي ذلك إلى انخفاض سعر هذه العملة مقابل الدولار مما يساعد بدوره على تحسين القدرة التنافسية لمنتجاتها في أسواق التصدير.
إجراءات رادعة
لكن، كيف يمكن القول أو الاستنتاج بأن سياسة نقدية كهذه هي في الواقع ممارسة غير عادلة في العملة؟ صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية قد وضعا مقررات وإجراءات لمنع "ممارسات العملة غير العادلة" لتحقيق التنافسية في التجارة الخارجية، كما وضع صندوق النقد الدولي اختباراً يمكن تطبيقه للتحقق من عدم اعتماد أي دولة عضو في الاتفاقات التجارية الحالية أو المستقبلية لهذه الممارسات وهي كالتالي:
- أولاً: هل حققت الدولة المعنية وفراً في ميزانها التجاري خلال فترة الستة أشهر الأخيرة.
- ثانياً: هل حققت الدولة المعنية زيادة في موجوداتها من العملات الخارجية خلال الفترة عينها.
- ثالثاً: هل أصبح لدى تلك الدولة موجودات من العملات الخارجية تفوق حاجتها العادية من الواردات لفترة ثلاثة أشهر.
وقد يبدو هذا الاختبار بسيطاً ولكنه يحقق بنظر صندوق النقد الدولي الغاية المرجوة من دون أن يتأثر أو يؤثر على السياسات النقدية التي قد تعتمدها أو اعتمدتها الدول المعنية.
من جهتها، فقد وضعت الحكومة الأميركية من خلال قانون تطبيق التجارة لعام 2015، مؤشرات أكثر دقة للتعرف على مدى وجود "ممارسات العملة غير العادلة" وهي موجهة بشكل خاص لتقييم العلاقات التجارية مع الاقتصادات الصناعية الأساسية التي تتعامل معها الولايات المتحدة. وتتلخص هذه المؤشرات بما يلي:
- أولاً: وجود فائض في الميزان التجاري مع الولايات المتحدة يفوق 20 مليار دولار.
- ثانياً: وجود فائض في الحساب الجاري في ميزان المدفوعات يزيد على 2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لدى الدولة التي تتعامل معها الولايات المتحدة تجارياً.
- ثالثاً: قيام الشريك التجاري بعمليات في سوق القطع من حيث شراء الحكومة الدولار مقابل العملة المحلية بقيمة إجمالية تصل إلى 2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للدولة المعنية.
دور الولايات المتحدة
والواقع أن الولايات المتحدة الأميركية هي اليوم الفاعل الأول في مجال مراقبة ومعاقبة "ممارسات العملة غير العادلة"، لكنه يمكن القول إن عواقب هذه الممارسات تبقى ضعيفة نسبياً، خصوصاً من حيث الخطوات التي يمكن اتخاذها من قبل صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية أو حتى الحكومة الأميركية.
وبالنسبة الى الولايات المتحدة الأميركية فلديها ما يسمى قائمة للمراقبة (Watch List) يجري تعديلها بشكل مستمر من خلال متابعة دقيقة لما تقوم به الدول في مجال سياساتها النقدية وسعر عملاتها.
وتنفرد الولايات المتحدة بإعداد قائمة بالدول التي تصنفها بأنها تقوم بهذه الممارسات والتي ضمت 20 دولة في منتصف العام 2020 المنصرم بينها اليابان وكوريا الجنوبية وألمانيا وإيطاليا وسنغافورة وماليزيا، وإضافة إليها في 2020 سويسرا وفييتنام. أما الدول التي تتهيأ بالقيام بإثنتين من الممارسات التي سبق ذكرها أعلاه فتضعها على قائمة المراقبة، وهي تشمل الصين حالياً التي نقلت في بداية السنة من قائمة الدول المتهمة بالممارسة غير العادلة. ففي تقريرها الأخير في نهاية 2020 أبقت وزارة الخزانة الأميركية، التي تعد هذه اللائحة، الصين تحت المراقبة من دون أن تسميها كدولة تقوم بممارسات العملة غير العادية ولكنها أوصت بأن تكون أكثر شفافية بالنسبة لسياساتها بشأن سعر اليوان.
تجربة سويسرا
أما بالنسبة إلى سويسرا، وعلى سبيل المثال، فهي قامت بالتدخل بقوة في سوق القطع بعد ارتفاع الفرنك السويسري 3 في المئة مقابل الدولار خلال فترة الإثنين عشر شهراً حتى يونيو 2020، ورأت وزارة الخزانة الأميركية أن بعض هذه العمليات على الأقل هدف إلى الحدّ من تأثير ارتفاع الفرنك على ميزان المدفوعات وهو ما يعتبر ممارسة غير عادلة وأنه كان من الأفضل اعتماد سياسة نقدية توسعية بدلاً من التدخل الكثيف في سوق القطع.
في الخلاصة
وفي نهاية الأمر يبدو واضحاً أن هناك خيطاً رفيعاً جداً بين السياسات النقدية المحلية لكل دولة وبين تهمة ممارسات العملة غير العادلة. فعندما تضطر دولة لاعتماد سياسة نقدية توسعية تخفض أسعار الفائدة المحلية، فإن ذلك ينعكس في غالبية الحالات انخفاضاً في سعر صرف عملتها، إن لم تكن قد انخفضت بالفعل نتيجة للأوضاع الاقتصادية التي استوجبت بداية اعتماد السياسة النقدية التوسعية. وارتفاع سعر صرف عملة ما نتيجة تدفقات رأسمالية مثلاً، كما في حالة سويسرا، قد يستوجب بدوره تدخلاً من قبل المصرف المركزي للجم هذا الارتفاع والحدّ من تأثيره على قطاعات معينة من دون أن يكون في ذلك نية لاعتماد ممارسات غير عادلة.
وفي ضوء كل ما سبق، فقد يقال إن المؤشرات والضوابط التي وضعتها الولايات المتحدة الأميركية لتحديد ممارسات العملة غير العادلة والتفريق بينها وبين السياسات النقدية التوسعية البحتة هي أكثر دقة وتفصيلاً من تلك المحددة من قبل صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية، لكن مجال المقارنة والمفاضلة بينهما يصبح أكثر صعوبة عند التنبه إلى أن هناك من دون شك أهدافاً سياسية في الكثير مما تقوم به الولايات المتحدة الأميركية في هذا المجال من حيث استخدامها اتهام ممارسات العملة غير العادلة كجزء من سياستها الخارجية في بعض الأحيان أو لتحقيق منافع ذاتية في تجارتها الخارجية ضد دولة أو دول تتفوق عليها في قدراتها التنافسية بغض النظر عن سعر عملتها أو سياساتها النقدية، هذا في الوقت الذي تستطيع فيه الولايات المتحدة الأميركية اعتماد السياسات النقدية التي قد تؤثر في سعر الدولار من دون مساءلة.