هل رفع الفائدة من شأنه حقاً معالجة التضخم؟

  • 2024-06-08
  • 11:38

هل رفع الفائدة من شأنه حقاً معالجة التضخم؟

  • د. جاسم المناعي

الرئيس السابق لصندوق النقد العربي

يُثار الجدل حالياً حول مدى جدوى رفع أسعار الفائدة في معالجة التضخم. ويستند مثل هذا الجدل إلى اعتبارات عدة منها الحالات التي لا يرجع فيها التضخم إلى قوة الطلب وسخونة الاقتصاد بل يكون التضخم ناتجاً عن نقص في جانب العرض من الاقتصاد كتعثر في سلاسل الإمداد ونقص في توفر المواد الخام او موارد الطاقة. 

طبعاً هناك ايضاً حالات الدول المرتبطة عملاتها بالدولار والتي ترتفع فيها أسعار الفائدة لمجرد رفعها على الدولار في الوقت الذي لا تعاني فيه هذه الدول لا من تضخم نتيجة لسخونة الاقتصاد ولا من تضخم مهم نتيجة لنقص العرض المتمثل في تعثر سلاسل الإمدادات وشحة توفر المواد الخام وموارد الطاقة. 

ولكي نتفهم أكثر طبيعة هذا الجدل الدائر حول هذه الحالات لا بدّ من أن نتطرق بإسهاب أكثر حول هذه الأمور ولنبدأ بالحالة الأولى والأساسية في علاقة رفع سعر الفائدة بمعالجة ظاهرة التضخم. في هذه الحالة، نجد أن معدلات النمو مرتفعة وسوق العمل يقترب من ما يعرف في الاقتصاد بمرحلة التشغيل الكامل أي معدلات البطالة تكون في أدنى مستوياتها مما يبرر رفع مستوى الرواتب والأجور أي أن الاقتصاد يعمل بكامل طاقته مع توفر سيولة كبيرة تنعكس في شكل انفاق مرتفع من قبل المؤسسات والأفراد الأمر الذي يؤدي الى اختناقات وارتفاعات كبيرة للاسعار، وهذا ما حدث في كل من أميركا وبريطانيا وكندا ودول أخرى وذلك حتى قبل نشوب حرب أوكرانيا.

 وترجع الأسباب الرئيسية لارتفاع الأسعار وتفشي التضخم في هذه الحالة الى كل من السياسة النقدية التي أبقت على أسعار فائدة متدنية لفترة طويلة واتباعها بما يعرف بالتيسير الكمي والذي تشتري من خلاله البنوك المركزية سندات الحكومة لكي تضخ في مقابلها أموالاً وسيولة كبيرة في الأسواق. من ناحية أخرى ولمساعدة الأنشطة الاقتصادية التي تضررت من جراء جائحة كورونا فقد تبنت السياسات المالية برامج انفاق على درجة كبيرة من السخا، الأمر الذي زاد من حجم السيولة المتوفرة في الأسواق وزاد من قوة الطلب على المنتجات والخدمات مما انعكس في شكل مزيد من ارتفاعات الأسعار وتفاقم ظاهرة التضخم. 

هذه الحالة تمثل في الواقع المبرر الرئيسي لرفع سعر الفائدة في معالجة التضخم والتخفيف من سخونة الاقتصاد. لكن ماذا عن الحالات الأخرى التي قد لا يكون فيها رفع سعر الفائدة هو بالضرورة الحل الأمثل لمشكلة التضخم؟ 

إن أهم هذه الحالات هي الحالة التي يكون فيها التضخم ليس ناتجاً عن قوة الطلب وسخونة الاقتصاد بقدر ما يكون ناتجاً في أغلب الأحيان عن عوامل تتعلق بوجود اختناقات في جانب العرض من الاقتصاد كتعثرٍ في سلاسل الإمداد أو نقص في توفر بعض عناصر الإنتاج أو بسبب صعوبات لوجيستية تحد من وصول المواد الغذائية الرئيسية أو لأسباب سياسية تؤثر في مدى توفر موارد الطاقة بالشكل المطلوب.

 كل هذه العوامل والأسباب من شأنها خلق حالة من شحة في عرض وتوفر المواد والمنتجات، الأمر الذي ينعكس في شكل ارتفاع أسعارها، وبالتالي تزايد مستويات التضخم. على الصعيد العالمي تعتبر حرب أوكرانيا حالياً سبباً رئيسياً لمثل هذه الأوضاع وفي مثل هذه الظروف، فإن رفع سعر الفائدة قد لا يجدي نفعاً في معالجة التضخم. 

يبقى أن نشير الى حالة أخرى تخص دول المنطقة والتي ترتفع فيها أسعار الفائدة من دون أن تعاني هذه الدول بالضرورة من تضخم كبير لا هو ناتج عن قوة الطلب وسخونة الاقتصاد ولا هو ناتج عن اختناقات فى جانب العرض من اقتصادات هذه الدول. رفع سعر الفائدة في دول المنطقة ليس هو إذاً بسبب التضخم بقدر ما هو راجع إلى ارتباط عملات غالبية هذه الدول بالدولار الأميركي، الأمر الذي يحتّم رفع الفائدة في هذه الدول كلما ارتفعت أسعار الفائدة على الدولار؛ وذلك للتأكد من استقرار أسعار الصرف وضمان استقرار نشاط الاستثمار وحركة رؤوس الأموال. 

إذاً، لدينا على الأقل ثلاث حالات والتي ليست جميعها تمثّل علاقة وثيقة بين رفع سعر الفائدة ومعالجة التضخم. وحتى الحالة الأولى والتي تبرر رفع سعر الفائدة يبدو فيها التضخم الآن وعلى اثر تداعيات حرب أوكرانيا راجع في جزء مهم منه إلى اختناقات العرض من الاقتصاد وليس بالضرورة نتيجة قوة الطلب وسخونة الاقتصاد الأمر الذي لا يبرر الإصرار على التركيز في رفع سعر الفائدة لمعالجة التضخم، وهذا حسبما يبدو ما أدركه البنك المركزي الأميركي مؤخراً، حيث أشار في اجتماعه الأخير إلى أنه قد يتمهل او قد لا يستمر في رفع سعر الفائدة بدءاً من شهر سبتمبر المقبل خصوصاً، وأن بعض مؤشرات الاقتصاد الأميركي بدأت تشير الى بعض الانكماش. لذلك نعتقد بأن رفع سعر الفائدة قد يكون مطلوباً في بعض حالات التضخم إلا أنه كما يبدو ليس هو بالضرورة الحل الصالح لكل زمان ومكان.