لبنان يتوغلّ عميقاً بانهاك اقتصاده وقطاعه المالي
لبنان يتوغلّ عميقاً بانهاك اقتصاده وقطاعه المالي
العام 2022 يراكم الخيبات على مسار "الخراب" الأعمى
- علي زين الدين
يستمر خروج القطاع المالي اللبناني عن سكة الانتظام في قياس الأداء والنتائج المحققة على أساس سنوي وفق المعايير العالمية المعتمدة، باستثناء كتلة محدودة من الكيانات المغلقة التي يصرّ حكامها على "اجتراح" بهلوانيات قسرية لاقناع الشعوب بإمكانية تكوين اقتصادات قابلة للنمو من دون الحاجة الى جهاز مصرفي ومؤسسات مالية، ولا تحتاج تجاربها الى دراسات وتحليلات لكشف عدم صحة هذا الافتراض.
فقد خلا العام 2022، كما سوابقه المتصلة منذ خريف العام 2019، من أي احداثيات او اشارات لترقب تحولات منشودة تكفل تصحيح مسارات الانحرافات الحادة في الميدان المالي والنقدي، بل نضحت التطورات المعاكسة بتعميق عوامل الخراب لتصير أشد قسوة على كامل مكونات القطاع وأكثر مرارة على أصحاب الحقوق من مودعين ومستثمرين، ربطاً بالتسويف والتمادي الحكومي في تأخير انضاج مقاربات نهائية للاصلاحات الهيكلية ضمن خطة التعافي، والشاملة لاقرار مشاريع القوانين الكفيلة بإعادة التوازن الى النظام المالي، وبما يستجيب لمندرجات الاتفاق الأولي مع صندوق النقد الدولي وتعبيد الطريق الآمن لتدفق القروض والمساعدات من الدول والمؤسسات المانحة.
دولة الدولار
في الأيام الأخيرة لعام مضى وكان زاخراً بتوليد المزيد من القرائن على "فشل" الدولة وانغماسها الطوعي او المتعمّد وفق توصيف البنك الدولي على تعميق الكساد، اضطرت السلطة النقدية الى استعادة المشهد المستنسخ لتجربة شراء الوقت عبر التدخل القوي في عمليات القطع وسعر صرف الليرة، توخياً لحفظ الاستقرار الداخلي الهش اساساً في مرحلة "الانتظار" الثقيل لانضاج توافق داخلي على ادارة الاستحقاقات العالقة، وفي مقدمها انتخاب رئيس جديد للجمهورية كمرتكز لاعادة انتظام السلطات الدستورية، ولاسيما تأليف حكومة مكتملة الصلاحيات تعيد الاعتبار لاولويات الملفات الاقتصادية والمعيشية الشائكة.
ومع بلوغ الدولار واقعياً عتبة 50 الف ليرة وسط شائعات محمومة عن تفلّت نقدي خارج اي سقوف سيفضي الى انهيارات أكثر كارثية تشهدها العملة الوطنية، فاجأ حاكم مصرف لبنان رياض سلامة مجدداً الاسواق الموازية للمبادلات بقرار رفع سعر التداول على منصة "صيرفة"، وعرض شراء السيولة بالليرة – حتى إشعار آخر - لقاء بيع الدولار النقدي بسعر 38 الف ليرة، مع التنويه بأنه يمكن للافراد والمؤسسات، ومن دون حدود رقمية، ان يتقدموا من جميع المصارف لتمرير هذه العمليات.
ووفق معلومات خاصة، فإن مرجعاً حكومياً صارح اقتصاديين التقاهم اخيراً بصعوبات التحكم بتطورات المشهد النقدي عبر معالجات ذات طابع تقني بحت، مبيناً ان البنك المركزي يحوز من خلال احتياطه من العملات الصعبة الذي يتعدى 10 مليارات دولار حالياً، قوة التدخل لمنع التدهور الحاد في سعر العملة الوطنية وسحب كميات وازنة من السيولة المتداولة التي تخطت مستوى 75 تريليون ليرة، انما ينبغي التنبّه الى التوازن الشرطي مع الأهمية الفائقة للحفاظ على مستوى ملائم للاحتياطات عبر اعتماد آليات للتدخل تضمن عدم "شفط" الدولارات او تهريبها في هذه المرحلة الانتقالية الحساسة.
ووفق تقديرات مسؤول مالي، فإن زيادة تمركز عمليات المبادلات النقدية من خلال منصة "صيرفة" التي يديرها البنك المركزي، يمكن ان تمنح السلطات والاطراف السياسية وقتاً ثميناً، انما هو محدود بأمد مرتبط طرداً بالكميات المتاحة للضخ النقدي بالدولار، وهذا ما يقتضي تسريع التحركات داخلياً وخارجياً للعمل على انجاز الاستحقاقات الاساسية وفتح مسارات تصويب الاوضاع الداخلية كافة، توطئة لاعادة تعويم خطة التعافي واقرار مشاريع القوانين الآيلة الى عقد الاتفاقية النهائية مع صندوق النقد الدولي، وانسياب التمويل الخارجي من قبل الصندوق والدول والمؤسسات المانحة.
وكاد سعر الدولار الاميركي المندفع صعوداً قبيل التدبير التقني الجديد للبنك المركزي، أن يبسط سيطرته شبه المطلقة على المشهد اللبناني بمجمل حيثياته المالية والنقدية والمعيشية، مدفوعاً بتشابك عوامل الغموض السياسي وتوسع دائرة "عدم اليقين" التي تطال الملفات الحيوية كافة، وبما يشمل غياب اي مبادرات حكومية طارئة او الايعاز باتخاذ تدابير وقائية بديلة على منوال سوابق تلجأ اليها السلطة النقدية توخياً لكبح سرعة تدهور سعر صرف العملة الوطنية.
ومع مسارعة معظم التجار والباعة الى اعتماد منظومة تسعير تحوطية تتعدّى بنسب تتراوح ما بين 10 و20 في المئة لسعر تداول الدولار في الاسواق الموازية الذي قارع عتبة 50 الف ليرة، ارتفع منسوب المخاوف من دخول البلاد في مرحلة فوضى غير بناءة تطيح بما تبقى من ركائز الهيكل المتداعي عبر تأجيج محفزات الاضطرابات الاجتماعية القائمة اساساً نتيجة الاختلال الحاد بين المداخيل والحد الادنى للمتطلبات المعيشية اليومية وانفلات مؤشر التضخم المفرط وانعدام معظم الخدمات العامة.
فرمان الشطب
تعكس وقائع الجهاز المصرفي جانباً اساسياً من حجم التدهور المحقّق والمرتقب في احد ابرز مكونات الاقتصاد الوطني، واستحالة تعويضه في المديين القريب والمتوسط، بل تصل التوقعات لدى مصرفيين كبار الى حدود اندثار النموذج الذي شكل ميزة تفاضلية لجذب الاستثمارات والرساميل على مدى ثلاثة عقود الى بلد ضعيف الامكانات وخارج من حرب اهلية مدمرة، وذلك ربطاً بتقدم القطاع الخاص وشبكة علاقاته الخارجية والتزاماته بالمواصفات والمعايير الدولية، وخصوصاً في مجال الصناعة المصرفية.
ومن غير المفهوم، وعلى نطاق واسع في الأوساط المالية والمصرفية، هذا الاصرار المتوارث في حكومتين متتاليتين في عصر الانهيار اللبناني الشامل على استخدام مبضع " الشطب"، كسلاح وحيد لردم الفجوة المالية المقدرة رسمياً بنحو 73 مليار دولار. وبالتوازي ابتكار كل اساليب مختلفة لتحميل الأثقال المترتبة على المودعين وحدهم، بعدما تذوقوا، على مدار ثلاث سنوات متتالية، الأصناف المتعددة للاقتطاع من المدخرات وجنى الأعمار.
وقد ينحسر بعض الغموض، اذا ما جرى ضم الانحراف المستغرب الى الثوابت المشهودة في كل تحولات الأزمات المتدحرجة نقدياً ومالياً ومعيشياً. فالمرجع المؤكد هو تنصل الدولة من مسؤولياتها كافة وترك الناس واقتصادهم لمصيرهم وللجري في ميدان شائك بغية تأمين مقومات الحياة بما تيسر من امكانات مستنزفة. والأكثر ثباتاً سلوك خيار الانكار وتعمّد انشاء خطوط تماس متوترة بين مؤسسات القطاع المالي وأصحاب الحقوق، استهدافاً لاستسلام الطرفين الى قضاء من بيدهم "الحل والربط" والقدر الذي اختاروه للبلد ومؤسساته.
عموماً، سال حبر كثير من قبل المؤسسات المالية الدولية التي لم تتردّد في توجيه الاتهامات المسندة بالقرائن الى منظومة الحكم ومخططاتها وتوجهاتها، ومن غير المرجح حصول تبدل في المنهجية ولا في المقاربات في ظل "العقم" المقصود الذي يسيطر على ادارة الدولة ويطغى على سياساتها الاقتصادية والاجتماعية، ولا يجد ضيراً في هدم "النموذج " واحلال شرائع بديلة غير معهودة ولا مستأنسة في مسيرة البلد واقتصاده ومجتمعه.
وتعكس رؤية الحكومة لإعادة التوازن للنظام المالي، مثالاً ناضحاً بما حاولت "تمريره" ضمن مقتضيات "استرضاء" ادارة صندوق النقد الدولي، والأمر عينه يسري طرداً على مشروع اعادة هيكلة الجهاز المصرفي، بينما يتم بالتسويف حيناً والمماطلة غالباً تغييب خطة التعافي الشاملة التي يتوجب ان تشكل المرجعية الناظمة لأي جهود انقاذية، وبشرط لازم أن تحظى نسختها النهائية بتوافق داخلي عريض ومشاركة بناءة من كل المكونات المعنية بالمواكبة والتنفيذ وفق تحديد صريح للمهل وللجداول الزمنية.
الميدان الخارجي للمصارف!
من باب التعداد لا الحصر، يركز المصرفيون على محورية الخروج غير المنظم للبلد وقطاعه المالي من الاسواق المالية الدولية عقب قرار الحكومة السابقة في ربيع العام 2020، بتعليق دفع كامل مستحقات سندات الدين الدولية (يوروبوندز)، ورغم توفر خيارات وقائية لدى البنك المركزي تكفل التعامل بمرونة مع الموجبات المالية المستحقة بقيمة تناهز المليار دولار فقط لقاء لديه احتياطات فعلية تتعدّى 30 مليار دولار، والشروع فوراً في اجراء مفاوضات بناءة مع الدائنين، ولاسيما منهم الشركات الاستثمارية الخارجية، بهدف إعادة هيكلة وتأجيل المستحقات الموزعة فعلياً لغاية العام 2037.
مع انسداد ابواب العالم المالية وانحدار التصنيف السيادي الى درجة "التعثر" لدى اكبر مؤسسات تقييم الجدارة الائتمانية، فقد الجهاز المصرفي هامش التواصل الخارجي والمناورة بواسطة قدراته الخاصة وفق تأكيدات المصرفيين، ليقع فريسة الانهيارات النقدية المتلاحقة والمخاوف المشروعة للمستثمرين والمودعين على توظيفاتهم ومدخراتهم، وبالتالي تحولّت مؤسساته الى صناديق لدفع السيولة وفقاً لبرامج التقنين الشائكة التي تقرّرها السلطة النقدية، ليواجه معها غضب اصحاب الحقوق والمترجم حيناً بهجمات التكسير للمقرات والفروع واجهزة الصرف، ثم بعمليات الاقتحام الفردية او المنظمة، فضلاً عن دفق الدعاوى القانونية لدى المحاكم داخل لبنان وخارجه.
وتلاحقت تباعاً الضربات القاصمة التي اصابت مكامن القوة والتميز لدى القطاع المصرفي، ثم توّجها التخلي غير الطوعي وبوتيرة سريعة وتراكمية عن "الهوية الاقليمية" التي كوّنتها ووسعتها عبر مواكبة اي فرصة سانحة في الدول العربية والميادين المالية المجاورة والابعد جغرافياً، ثم عززت هذا الانتشار بإنشاء وحدات مستقلة تتركز انشطتها الاستثمارية والتمويلية في البلد المقصود، اضافة الى خدمة اللبنانيين واعمالهم الخاصة في هذه البلدان.
وبالفعل، توالت عمليات الانسحاب الكلي والجزئي بقدر اقل من معظم الاسواق الخارجية، تحت ضغوط تشويه السمعة والحاجات الملحة لدعم رساميل المراكز الرئيسية في لبنان والتزام التعليمات المشدّدة بحق هذه المصارف من قبل بعض البنوك المركزية في دول الانتشار، فيما تعاني كل ادارات البنوك من تناقص امكاناتها لحماية منظومة شبكات علاقاتها التواصلية مع الشركاء في الأموال الخاصة والرساميل ومع المستثمرين الخارجيين من افراد ومؤسسات والذين كانوا يخصّون البنوك اللبنانية بحصص وازنة من توظيفاتهم.
وبحسب المعطيات القائمة حتى الساعة، شملت عمليات الخروج، عبر اتفاقات بيع كامل الحقوق والاصول وفصلها تماماً عن الميزانيات المجمعة، من اسواق مصر والاردن والعراق والبحرين وقبرص، لتنضم الى لائحة سابقة للأزمة فرضتها العقوبات المالية الأميركية على سوريا والسودان، والتقليص الجوهري لأنشطة وحدات وفروع في العديد من البلدان الأفريقية.
وبذلك ظهرت الفجوة الكبيرة مقارنة مع خريطة الانتشار المحقّق قبيل انفجار الازمتين المالية والنقدية في خريف العام 2019، حيث تظهر معطيات الإنتشار الخارجي للبنوك اللبنانية وجوداً مباشراً لـ 18 مصرفاً لبنانياً في دول المنطقة والعالم، ويتبع لهم 313 وحدة مصرفية منتشرة في 30 بلداً و88 مدينة.
وليس الحال افضل كثيراً في الداخل اللبناني. فواقع الأمر ان اغلب المصارف المتخصصة وفي مقدمها الأعمال او الاستثمار التي وصل عددها الى 16 مصرفاً مستقلاً قبل الأزمة، سلكت خيار الاندماج مع مصارفها "الأم " وبعضها يواجه خيار التصفية الذاتية، وبذلك انخفض العدد الاجمالي للبنوك الى 46 مصرفاً، وتقلّص معها عدد الفروع العاملة من 1080 الى 830 فرعاً، مع ترجيح اقفال المزيد من الفروع عبر سياسات التجميع والوفر المتبعة والتخلي تماماً عن الوحدات المكلفة او غير المملوكة او التي يمكن تصنيفها "غير آمنة".
الأثمان الباهظة
اما الأكثر جسامة وضرراً، فيكمن وفقاً لتحليلات المصرفيين في التطورات الدراماتيكية للميزانيات المجمعة للقطاع ومؤشراته الرئيسية. ففي ظل ذوبان الرساميل المحررة بالليرة اللبنانية والتي سقط سعرها من 1515 ليرة لكل دولار الى نحو 46 الف ليرة حالياً في الاسواق الموازية او 31 الف ليرة وفق منصة "صيرفة"، تبدو فرصة تصحيح اوضاع المصارف شائكة طالما تتنصل الدولة من ايفاء ديونها وتقترح "شطب" او عزل نحو 60 مليار دولار من توظيفات البنوك وايداعاتها لدى البنك المركزي.
ولا تحتاج قراءة البيانات في نهاية العام المالي الرابع ( مع ضم تأثيرات العام 2019) لانفجار الأزمات الى جهد لاكتشاف عمق الثغرات الكامنة سواء من الناحية الرقمية البحت او في الميزان النقدية الواقعي. فعشية الانحرافات الكارثية نقدياً ومالياً، وصل اجمالي الأصول لدى الجهاز المصرفي الى نحو 250 مليار دولار، ليهوي حالياً الى نحو 164 مليار دولار، انما الفارق المؤلم لا يكمن فقط بالنقص الرقمي البالغ نحو 86 مليار دولار رغم موازاته لما يزيد على 4 اضعاف الناتج المحلي المنحدر بدوره من نحو 55 الى نحو 20 مليار دولار، بل في الوزن النقدي بين دولار حقيقي سابق ودولار محلي لمعظم المكونات الحالية ويوازي واقعياً نحو 20 في المئة من القيمة الحقيقية.
وبالمثل، انحدر اجمالي الودائع من نحو 179 مليار دولار الى اقل من 129 ملياراً، وهذا الرقم مرشح للانكماش اكثر بدءاً من اول فبراير ( شباط ) المقبل حيث سيبدأ اعتماد السعر الرسمي الجديد، اي 15 الف ليرة لكل دولار، اذ يتم احتساب الودائع المحررة بالليرة بالسعر الحالي البالغ 1515 ليرة، ليصل رقمها الدفتري الى نحو 32 مليار دولار، بينما ستتقلص تلقائياً الى 3.2 مليارات دولار وفق السعر الجديد، علماً ان السعر الواقعي يجعلها تتقلص الى نحو 1.05 مليار دولار والى 1.56 مليار دولار وفق السعر الحالي للدولار على منصة صيرفة.
وتبقى المشكلة الأكثر استعصاء في كتلة الودائع المحررة بالعملات الصعبة التي وصلت حالياً الى نحو 96 مليار دولار. فالحكومة تقترح حماية 100 الف دولار فقط من كل حساب مصرفي، مع تقدير بلوغ المجموع نحو 20 مليار دولار، وهذا ما يثير مخاوف المودعين المقيمين وغير المقيمين على الكتلة الأضخم البالغة نحو 75 مليار دولار، وهم يتخوفون أكثر من التطابق ( غير المصادف) بين الرقم الصافي وتقديرات الفجوة. وهنا تتجلّى حيثيات القطبة المخفية لنظرية "الشطب" التي تبدأ من توظيفات البنوك لدى المركزي برقم قريب جداً، لتنتقل الى الصندوق الموعود لاسترداد الودائع بذريعة تعذر السداد لأصحاب الحقوق.
الأكثر قراءة
-
"جلف كابيتال" قوة استثمارية مؤثرة في الخليج وآسيا
-
ماذا تتضمن نشرة الإحصاءات الزراعية في السعودية لعام 2023؟
-
قطر: شراكة بين وزارة الاتصالات و"ستارتب جرايندر" لتعزيز الابتكار وريادة الأعمال
-
صندوق النقد الدولي يحذر من النمو المتسارع للديون العالمية: لإجراءات عاجلة تكبح نموها
-
"بيورهيلث القابضة" الإماراتية تسجل صافي أرباح بقيمة 1.4 مليار درهم في 9 أشهر