ماذا عن خيارات قطر الاستراتيجية بعد المونديال؟
ماذا عن خيارات قطر الاستراتيجية بعد المونديال؟
الإنجاز الكبير أثبت كفاءة الدولة القطرية وعزز صورتها وطموحاتها الاقتصادية
- "أوّلاً- الاقتصاد والأعمال"
أين يندرج المونديال ونجاحه المبهر في الخطط القطرية الاقتصادية واستراتيجيتها لتفعيل المكاسب الكبيرة التي تحققت من ورائه إلى قوة دائمة ودور أوسع على النطاقين الإقليمي والدولي؟ وهل انقضاء المونديال يعني أن قطر ستعود إلى الوضع التي كانت عليه من قبل؟
الجواب البسيط على ذلك، هو أن قطر ما بعد المونديال هي بالتأكيد غيرها بعده، لكن ما هو حجم التغيير وما هي الآفاق المستقبلية لهذا البلد الخليجي الغني بالموارد الطبيعية والذي بنى لنفسه حيثية دولية وشبكة من العلاقات والصداقات مع مختلف الأطراف المهتمة في المنطقة؟
انجاز عربي
كان فوز قطر بفرصة تنظيم المونديال في العام 2010 حدثاً تاريخياً، إذ كانت المرة الأولى التي يحظى بها بلد عربي بفرصة تنظيم هذا الحدث العالمي والذي انتقل بذلك من احتكار البلدان الغربية أو الأميركية اللاتينية إلى المنطقة العربية، وكان لافتاً للانتباه أن قطر وضعت نصرها على الفور في تصرف الخليج والمنطقة العربية، إذ أدركت أن تعظيم العائد عليه يتطلب ألا يبقى هذا الحدث قطرياً بل أن يصبح حدثاً لهذه المنطقة التي تضم 445 مليون بشري ما يجعل منها ثالث أهم تكتل سكاني في العالم بعد الهند والصين.
لكن قطر كانت مدركة أن فوزها بتنظيم المونديال سيمثل تحدياً غير مسبوق لقدراتها كاقتصاد وكمجتمع وكبنيات حكومية، كما إنه سيحتاج إلى إنفاق مبالغ ضخمة ليس على المناسبة نفسها بل على البنى التحتية التي سيحتاجها البلد لاستقبال المناسبة العالمية وإنجاحها، لكن القيادة القطرية أدركت في الوقت نفسه الأهمية التاريخية لتنظيم أكبر حدث رياضي عالمي على أرضها ورأت فيه فرصة ذهبية وقوة دفع لتحديث الاقتصاد والبنى التحتية وتعزيز صورة قطر في العالم كما رأت في الحدث التاريخي جسراً يمكن أن يعزز موقعها ضمن الدوائر الثلاث التي تتحرك فيها وهي الدائرة الخليجية أولاً ثم العربية ثم الدائرة الدولية.
امتحان النجاح
وبالفعل، فإن النجاح القطري الحاسم في تنظيم المونديال برغم التحديات الهائلة وأصوات التشكيك والحملات، كان بمثابة امتحان عزّز مصداقية قطر والثقة بها وبقدراتها على مختلف المستويات، كما إنه أثبت كونها شريكاً كفوءاً ويمكن الاعتماد عليه في التعاون الخليجي، ولذلك فقد تبنّت دول الخليج تنظيم المونديال في قطر كحدث خليجي وعربي ودعمته بقوة إعلامياً، كما دعمته بالمشاركة الواسعة لمئات الآلاف من مشجعي الكرة في بلدانها.
خطط واقعية
من أهم السمات في الخطة القطرية للمونديال أنها كانت تدرك الطابع الانتقالي للعديد من مكاسب المونديال، ما جعلها تتجنب برغم 12 عاماً من الاستعدادات استحداث طاقة إيوائية فائضة أو ضخمة يمكن أن تفقد وظيفتها بعد انتهاء الحدث، يدل على ذلك أن الطاقة الإيوائية الإجمالية لقطر عشية المونديال لم تكن تتجاوز الـ 31,000 غرفة، وهذا النقص الكبير لم يكن صدفة إلا أن قطر أعدّت لتعويضه بسبل مختلفة مثل التشجيع على تأجير المنازل والفيلات الخاصة والسفن السياحية العملاقة والمخيمات الجاهزة والتعاون مع الدول الخليجية المجاورة عبر تسيير الرحلات الجوية وتأمين الطاقة الإيوائية لعدد كبير من المشجعين.
آفاق السياحة
يمكن لقطر ولا شك البناء على نجاح المونديال لتطوير سياحة مزدهرة بحيث تكون مقصداً مكملاً للأنماط السياحية الوطيدة في بلدان الخليج الاخرى ولا سيما في الامارات، ومما يدل على اهتمام قطر بتطوير قطاعها السياحي أن رؤية 2030 وضعت بين أهدافها رفع مساهمة السياحة إلى 12 في المئة من الناتج المحلي في العام 2030، كما إن من الأدلة على الاهتمام بالسياحة بدء العمل بتوسعة مطار حمد مع هدف زيادة طاقته الاستيعابية إلى 75 مليون مسافر بتاريخ العام 2030، ويمكن التعاون مع بلدان الخليج الاخرى لتطوير سياحة المجموعات أو السياحة الإقليمية حيث يمكن للسياح الخليجيين التنقل بحرية بين دول المجلس بينما يمكن للزائرين الأجانب ترتيب برامج سياحية تتضمن زيارة أكثر من بلد خليجي، وهذه الصيغة متوافرة في الخليج ضمن حدود معينة، وفي جميع الحالات، فإنه سيكون على قطر بذل جهود كبيرة في بلورة رؤيتها السياحة وتفعيل ميزاتها التفاضلية خصوصاً في ميدان سياحة الأحداث الرياضية والسياحة البحرية والصحراوية وغيرها من الأنشطة.
العائد الاقتصادي
تشير التقديرات الواقعية إلى أن الاستثمارات التي أنفقتها قطر على البنى التحتية في نطاق الاستعداد لكأس العالم 2022 تتراوح ما بين 220-300 مليون دولار، وهذا الإنفاق الواسع يتوقع أن ينعكس بما يسمى المضاعف الاقتصادي حيث يؤدي إنفاق دولار مثلاً على البنى التحتية إلى التسبب بإنفاق دولارات إضافية مقابلة في القطاعات الإنتاجية والتجارية والخدماتية التي تتيح البنى التحتية الحديثة الفرض لقيامها. المونديال رفع الناتج المحلي لقطر بنسبة 4.1 في المئة في العام 2022 كما إن قطر ستحقق زيادة في الناتج المحلي بنسبة 3.2 في المئة في الفترة حتى العام 2030، كما إن المباريات حققت لقطر دخلاً إضافياً يفوق الـ 17 مليار دولار حسب إحدى مؤسسات الأبحاث الأميركية التي تابعت الحدث العالمي بينما قدرت الحكومة القطرية المساهمة المتوقعة للمونديال بنحو 20 مليار دولار أو نحو 11 في المئة من الناتج المحلي للعام 2019 الذي سبق جائحة الكورونا.
تطوير المؤسسات
إن تصميم دولة قطر على منح العالم أفضل مباريات لكأس العالم في تاريخ اللعبة جعلها تضع لنفسها أهدافاً طموحة ينبغي بلوغها قبل بدء المباريات. ونجم عن حالة الاستنفار والتعبئة في مواجهة التحدي تطوير نوعي قي عمل الإدارات القطرية نفسها وفي كفاءة القيادات وجودة التنفيذ واعتماد المعايير الحديثة للأداء والاستدامة، وتحول المونديال بذلك عبر 12 عاماً من الجهود والمتابعة ومعالجة التحديات إلى أكبر تمرين في تكوين المؤسسات ورفع الكفاءة والإنتاجية في المؤسسات القطرية، كما إن البنى التحتية المتطورة التي تم إنجازها ليس فقط في الملاعب والباحات بل في منظومة النقل الاتصالات والاعمال اللوجيستية والخدمات المالية ولاسيما المدفوعات، يتوقع أن تؤدي وظيفتها لسنوات طويلة قادمة وان تكون عاملاً اساسياً في دعم النمو والتوسع الاقتصادي.
دور ريادي
بينما يمكن لتطور السياحة القطرية أن يأخذ وقتاً في انتظار نضج الظروف، فإن تجربة قطر في تنظيم المونديال أدت إلى اكتسابها خبرات ريادية في إدارة الأحداث الرياضية في منطقة معروفة بحرِّها الشديد خلال معظم أشهر السنة، وقد ظهرت تلك الخبرة في أسلوب تصميم الملاعب وفي اعتماد فصل الشتاء كفصل مفضل للرياضة الكروية وغيرها وساعد الفوز بالمونديال قطر على اجتذاب الأحداث الرياضية العالمية، إذ تمكنت من تنظيم نحو 63 حدثاً رياضياً في العام 2021 وحده.
81 حدثاً رياضياً في 2023
لقد طرحت بعض وسائل الإعلام أسئلة عن أوجه الاستخدام الممكنة للاستثمارات الكبيرة التي نفذتها قطر في نطاق الاستعداد لاستضافة مونديال 2022، وعلى هذه الأسئلة، فإن الجواب القطري جاء أولاً على شكل تفكيك بعض الملاعب التي تزيد على طاقة البلد وإهدائها لدول نامية، أما الشق الثاني من الجواب فقد ظهر بوضوح قبل يومين في البرنامج السنوي للجنة الأولمبية القطرية التي نشرته وتضمن جدولاً بالأحداث التي تستعد قطر لاستضافتها في العام الجاري. واللافت هو إعلان اللجنة عن استعدادها لتنظيم 81 حدثاً رياضياً خلال العام الجاري منها 14 دورة رياضية دولية أبرزها سباق "الفورمولا-1" والمسابقات الدولية للرياضات البدنية Gymnastics والبدنية الفنية ودورات دولية في رياضات كرة الشاطئ العالمية للمحترفين ودورات دولية لمنافسات كرة المضرب (التنس) والطاولة والسكواش ومنافسات الجودو والتكواندو وكرة السلة العالمية ومباريات القفز عن الحواجز للخيول العربية ومباريات الهوكي على الخيل ومباريات رفع الأثقال ومسابقات الرماية.
يبقى القول إن تطور البعد الرياضي في الاقتصاد القطري لا بدّ وأن يلعب دوراً مهماً في رفع جودة الحياة للمجتمع القطري وتشجيع المنافسات الرياضية بين المواطنين، لكن الحكومة القطرية لا تعتزم اعتماد القطاع الرياضي كمصدر أساسي للدخل وإنما كرافعة لتعزيز التدفقات السياحية والزائرين إلى الإمارة وصورة البلد في المنطقة والعالم، وهي حققت الكثير من هذه الأهداف.
وبني النموذج القطري للمونديال على أهداف بيئية أساسية مثل إتاحة تحقيق وفر في استخدام الطاقة بنسبة 45 في المئة بالمقارنة مع مرافق مشابهة، وتحقيق وفر بنسبة 44 في المئة في استخدام المياه في الأبنية وأجريت سلسلة من العقود مع شركات عالمية استهدفت المساعدة على خفض الانبعاثات الكربونية الناتجة عن الفعاليات والمباريات وأتاحت لقطر بالتالي أن تقدم للعالم أول مونديال يحقق صفر انبعاثات.
رؤية 2030
تسلط رؤية 2030 الضوء على قدر كبير من التمايز القطري في النظر للمستقبل، وتقوم هذه الرؤية على تصور خاص يركز على الموازنة بين النمو والبيئة وعلى إعطاء الأولوية للتعليم المتقدم والتنمية البشرية واقتصاد المعرفة، واللافت أيضاً تميز الرؤية القطرية بالتشديد على "القيم القطرية" وشعور الانتماء والمواطنة. وتعطي الرؤية الأولوية للإنسان القطري عبر التركيز على ثلاثة مجالات أساسية هي التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية وبناء القوة العاملة العالية الكفاءة.
لكن يظهر بوضوح قوي في الرؤية القطرية الطموح المستمر للعب دور متعدد الابعاد في إطار الأسرة الدولية في مجالات مثل زيادة الدخل ضمن الإطار الخليجي والعربي والإسلامي، كما تدعو الرؤية إلى تفاعل قطر الثقافي مع الشعوب العربية ورعاية الحوار والتفاوض لحل النزاعات والاعتناء بتوفير المساعدات الإنسانية، وبالطبع، فإن المؤدى الواضح لهذه الرؤية هو طموح واضح وشعور بالاكتفاء النسبي بالمسار الحالي وبالدور الكبير الذي يلعبه الغاز الطبيعي الذي يصنف أحياناً كشكل من أشكال الطاقة الانتقالية الى عصر الطاقات الجديدة ولاسيما مع تسارع الاستعدادات لزيادة طاقة الإنتاج من 77 مليار طن في العام 2020 إلى 126 مليون طن بحلول العام 2027.
الأكثر قراءة
-
المركزي الصيني: 98.5 مليار دولار تسهيلات إقراض متوسط الاجل
-
الخزانة الأميركية تعتزم بيع سندات طويلة الأجل بـ 183 مليار دولار الأسبوع المقبل
-
"جلف كابيتال" قوة استثمارية مؤثرة في الخليج وآسيا
-
ماذا تتضمن نشرة الإحصاءات الزراعية في السعودية لعام 2023؟
-
قطر: شراكة بين وزارة الاتصالات و"ستارتب جرايندر" لتعزيز الابتكار وريادة الأعمال