ما هي أسباب وانعكاسات حادثة طائرة "ماكس 9" الأخيرة على شركة "بوينغ"؟

وضعت حادثة طائرة "737 ماكس 9" التابعة لـ"ألاسكا إيرلاينز" الأميركية، شركة "بوينغ" تحت المجهر من جديد، خصوصاً بعد أن واجهت أزمة عالمية كبيرة في السابق إثر حادثتي طائرتين من طراز "ماكس 8" ما بين العامين 2018 و2019 ومقتل أكثر من 300 شخص كانوا على متنها.

وفي 5 كانون الثاني/يناير 2024، أدى انفصال لوحة المقصورة من جسم طائرة "ألاسكا إيرلاينز" في الجو إلى حدوث ثقب بحجم باب في جانبها بعد 20 دقيقة من إقلاعها من بورتلاند في أوريغون، مما اضطرها إلى تنفيذ هبوط طارئ وآمن في مطار أونتاريو بكاليفورنيا وعلى متنها 171 راكباً و6 من طاقمها، ما حذا بإدارة الطيران الفيدرالية الأميركية لإيقاف مؤقت لـ171 طائرة من هذا الطراز لحين إجراء التحقيقات اللازمة والذي يشارك فيها المجلس الوطني لسلامة النقل الأميركي، بالإضافة إلى إلغاء العديد من الرحلات الجوية داخل الولايات المتحدة وخارجها من قبل شركتي "ألاسكا إيرلاينز" و"يونايتد" وشركات طيران عالمية أخرى.

دخلت طائرة "بوينغ 737" ذات الممر الواحد إلى الخدمة في العام 1968 وتم تسليم أكثر من 11 ألف طائرة منها إلى شركات الطيران العالمية خلال العقود الماضية، ويعتبر طراز "ماكس" أحدث نسخة من طائرة "737" ويتمتع بمحركات جديدة لتعزيز توفير الوقود والمدى ودخلت إلى الخدمة في العام 2017.

مخاوف حول سلامة طائرات "ماكس"

أثارت حادثة "ألاسكا إيرلاينز" المخاوف لدى الكثير من شركات الطيران العالمية ووضعت شركة "بوينغ" أمام تحديات ومسؤوليات كبيرة تتعلق بسلامة وأمان طائراتها من طراز "ماكس" بعد النكسة التي عاشتها طيلة السنوات الماضية جراء حادثتي "ماكس 8" ومضاعفة جهودها للخروج منها وتكبّدها لخسائر مادية فادحة، وتراجع أسهمها في الأسواق الأميركية، ودفعها نحو 2.5 مليار دولار في تسوية مع وزارة العدل الأميركية بسبب تهم احتيال على إدارة الطيران الفيدرالية الأميركية في العام 2021، ودفعها 200 مليون دولار إضافية في العام 2022 في صفقة مع منظمي الأوراق المالية الأميركية بسبب اتهامات لها بتضليل المستثمرين من خلال الإشارة إلى أن الخطأ البشري هو المسؤول عن حادثتي طائرتي "ماكس 8".

كل ذلك وضع الثقة في أداء شركة "بوينغ" على المحك مما جعلها تراجع حساباتها وتسعى لإنهاء هذه المسألة خصوصاً وأن معظم المراقبين أشار إلى أن نظام توريد مكونات صناعة الطائرات من مصادر خارجية هو وراء كل المشكلات التي حصلت.

استراتيجية الاستعانة بمصادر خارجية

ومنذ سنوات طويلة، اعتمدت شركة "بوينغ" نظاماً جديداً لإنتاج طائراتها والتي ترتكز فيه على مبدأ توريد المكوّنات التي تدخل في هذه الصناعة من مصادر خارجية (Outsourcing) بهدف خفض التكاليف وزيادة وتيرة الإنتاج وتركيزها على التجميع النهائي لأجسام الطائرات وإخراجها إلى الأسواق المحلية والعالمية، بحيث كانت العشرات من المصانع تقوم ببناء القطع الرئيسية لطائرات 737 و787 قبل أن تقوم "بوينغ" بتجميعها في نهاية المطاف، إلا أن ذلك نتج عنه مشكلات كبيرة لناحية جودة المنتجات المصنّعة خارج مصانع "بوينغ".

تحذير خطير

في العام 2001، حذّر مهندس الطيران في شركة "بوينغ" جون هارت سميث في ورقة بيضاء نشرها خلال ندوة فنية داخلية من تداعيات الإفراط في الاستعانة بمصادر خارجية لتوريد مكوّنات صناعة الطائرات، مشيراً إلى أن أداء الشركة المصنّعة الرئيسية لا يمكن أن يتجاوز أبداً قدرات الموردين الأقل كفاءة، لافتاً النظر إلى أن هذه التكاليف لا تختفي لمجرد أن العمل نفسه بعيد عن أنظار شركة "بوينغ". وأحدثت الورقة ضجة واسعة داخل شركة "بوينغ" حيث تم تمريرها بين كل المهندسين والموظفين. ولكن الشركة لم تستمع إلى هذا التحذير واستمرت في عمليات التصنيع معتمدةً على المصادر الخارجية وها هي تواجه اليوم تداعيات هذه الاستراتيجية بعد عقدين من تحذيرات هارت سميث.

"سبيريت أيروسيستمز"

استحوذت شركة "سبيريت أيروسيستمز" الأميركية على مصنع كانت تمتلكه شركة "بوينغ" لتصنيع أجزاء من أجسام طائراتها في منطقة ويتشيتا بولاية كانساس خلال العام 2005. وقال المدير التنفيذي لشركة "بوينغ" آنذاك آلان مولالي إن بيع هذا المصنع لشركة مساهمة خاصة سيسمح لـ"بوينغ" بالتركيز على عمليات التجميع النهائي لطائراتها وإضافة قيمة أكبر لها. وفي السنوات التي تلت، بدأت "سبيريت" تعاني من مشاكل ضخمة في الإنتاج وهفوات في الجودة منذ أن تنازلت "بوينغ" عن الكثير من مسؤوليتها في عملها. وتعتبر "سبيريت" المورد الوحيد لأجسام الطائرات المستخدمة في العديد من طائرات "بوينغ"، بما في ذلك طائرة "ألاسكا إيرلاينز" التي واجهت الحادثة الجوية الأخيرة خلال كانون الثاني/يناير الحالي. وتعتمد "سبيريت" بشكل كبير على إيراداتها من شركة "بوينغ"، بحيث مرّت العلاقة بين الطرفين بكثير من الصعوبات خلال السنوات الماضية حول قضايا التكليف والجودة، وأدى إيقاف تشغيل "ماكس" لمدة سنتين وحلول جائحة "كوفيد-19" إلى استنفاد الموارد المالية لشركة "سبيريت"، وإلى إلغاء لآلاف الوظائف، مما تركها في وضع خطير عندما عاد الطلب إلى الانتعاش من جديد.

كما أفاد بعض موظفي "سبيريت" بأن مشاكل الإنتاج كانت شائعة جداً بحيث كان يتم تجاهل الشكاوى الداخلية المتعلقة بالجودة، مشيراً إلى أن هناك 10 ملايين ثقب يجب ملؤها بمزيج من البراغي والمثبتات والمسامير في الطائرات التي تم بيعها إلى شركات الطيران. من جهته، قال رئيس فرع الرابطة الدولية للميكانيكيين وعمال الفضاء الجوي الذي يمثل العمال في "سبيريت" كورنيل بيرد إن هناك العديد من الطائرات حول العالم يعاني من مشكلات لم يكتشفها أحد بسبب الضغوط الكبيرة التي تمارسها "سبيريت" على الموظفين لإنجاز مهماتهم بسرعة في مصنعها بويتشيتا. وفيما قالت "سبيريت" أنها تركز على جودة كل طائرة تغادر منشآتها، أشارت "بوينغ" إلى أنها ستعمل على طمأنة المسؤولين بأن كل طائرة تحمل اسمها في السماء هي في الواقع آمنة.

فترة الجائحة

شلّت جائحة كورونا حركة السفر في معظم دول العالم ما أدى إلى خسائر كبيرة طاولت شركات الطيران وشركات تصنيع الطائرات ومورديها بشكل عام. وجرى اختبار نظام التصنيع الموزع بين الشركات الموردة خلال هذه الفترة في ظل افتقار مصانعها للعمالة بعد عمليات تسريح طالت الآلاف من الموظفين ومن بينها شركة "سبيبريت"، وكان الطلب مشوهاً ووسائل النقل معقدة والأوضاع الاقتصادية صعبة للغاية.

ومع البدء بعودة الحياة إلى طبيعتها وعودة حركة السفر، كافحت شركة "سبيريت" لمواكبة هذا الأمر في الوقت الذي كانت تفتقد فيه إلى العمالة الخبيرة في مراقبة الجودة وافتقارها إلى الميكانيكيين المتخصصين بسبب التسريح الذي طال موظفيها من مصنع ويتشيتا في العام 2019. وفي هذا السياق، قال رئيس شركة "سبيريت" شاناهان، إن زيادة الإنتاج السريعة وإيقاف تشغيل "ماكس" في وقت سابق تركا الشركة تعاني من نقص العمال ذوي الخبرة، وأضاف: "عندما يكون هناك اضطراب، يكون هناك عدم استقرار".

مراقبة الجودة

لأكثر من عقد من الزمان، تصارعت "سبيريت" و"بوينغ" حول قضايا التكاليف والجودة ووتيرة الإنتاج. وأدت مطالبات شركة "بوينغ" بتخفيض الأسعار إلى جعل شركة "سبيريت" تعاني من ضائقة مالية، حيث أصيب المديرون بالذعر بسبب الالتزام بالمواعيد النهائية المتزايدة الطلب، وكانت النتيجة بأن تصنيع مكوّنات الطائرات في مصنع ويتشتيا بشكل سريع دون مراقبة جودتها أدى إلى ارتكاب عيوب كثيرة لم يتم الكشف عنها ولم يكن يسمح للموظفين بالإضاءة عليها. وفي هذا الإطار، وضعت "بوينغ" شركة "سبيريت" تحت المراقبة وبدأت بفحص عملها عن كثب مشددة على ضرورة التقليل من العيوب الموجودة لخروج الشركة الموردة من فترة المراقبة.

وأفاد بعض الميكانيكيين في مصنع "سبيريت" بأنه نادراً ما يتم نقل مخاوفه حول الجودة إلى كبار المديرين، مشيراً إلى أن مفتشي الجودة يخشون الانتقام إذا ألمحوا إلى الكثير من المشاكل.

ودار صراع بين ممثلي نقابات العمال والمدراء في "سبيريت" خلال الخريف الماضي بعد أن أقالت الأخيرة مفتشي جودة من وظائفهم بعد أن أبلغوا عن عيوب متعددة واستبدلتهم بعمال متعاقدين.

الشركات العالمية والتوريد من مصادر خارجية

أصبحت استراتيجية التوريد من مصادر خارجية رائجة جداً لدى كبرى شركات الصناعات التحويلية الحديثة منذ سنوات مضت، بدءاً من أصغر المنتجات كالهواتف النقالة ووصولاً إلى أكبرها كالطائرات والسيارات وغيرها. ولجأت هذه الشركات لاعتماد هذه الاستراتيجية بهدف خفض تكاليفها وزيادة إنتاجها وقضائها على الهدر، وفي المقابل، توسع هذه الاستراتيجية من نطاق رقابة الشركات على مورديها وتزيد من المخاطر بحيث أن المنتج النهائي يصبح أقل جودة في حال كان المورد لا يتمتع بالجودة المطلوبة أصلاً.

انعكاسات حادثتي "ماكس 8" على "بوينغ"

ألقت حادثتا طائرتي "ماكس 8" ما بين العامين 2018 و2019 بثقلهما على شركة "بوينغ" بحيث أعلن المحققون أن نظام التحكم في الطيران الخاطئ الذي صممته الشركة هو وراء ما حصل.

تضمنت جلسات الاستماع في الكونغرس التي تلت ذلك شهادة من مدير إنتاج سابق في مصنع 737 في رينتون. وكشف محققو مجلس النواب الأميركي عن مذكرة كتبها المدير يشكو فيها من ضغوط الإنتاج التي تؤدي إلى عيوب خطيرة في المصنع.

وبعد ذلك بوقت قصير، أطلقت إدارة الطيران الفيدرالية تحقيقاً بشأن جودة مصنع "بوينغ" وشددت رقابتها من خلال إلغاء قدرة الشركة على إجراء فحوصات السلامة النهائية على الطائرات المنتجة حديثاً نيابة عن الجهات التنظيمية. ويعتبر تفويض بعض سلطات إدارة الطيران الفيدرالية أمراً شائعاُ في مجال الطيران.

وفي السنوات التي تلت ذلك، ظهرت مشاكل التصنيع ليس فقط في الطائرة 737، بل في المصانع الأخرى حيث تصنع شركة "بوينغ" طائرتها 787 دريملاينر، وهي ناقلة التزود بالوقود العسكرية الأميركية وطائرات بديلة للطائرة الرئاسية، وكذلك في بعض مورديها الرئيسيين.

ونظراً لأن بعض المشاكل في كل من طائرتي 787 و737 تعود إلى شركة "سبيريت"، قال المسؤولون التنفيذيون في "بوينغ" في العام 2023 إن شركة تصنيع الطائرات ستعزز الرقابة على المورد الذي كانت تملكه في السابق.

وقال الرئيس التجاري لشركة "بوينغ" ديل في مؤتمر صحفي عقد في أيار/مايو 2023 "سيكون هناك بعض النشاط المتبقي الذي نقوم به وهو أمر مهم من نظام إدارة الجودة"، وقال في وقت لاحق إن شركة "بوينغ" ستعزز التدريب وعمليات التفتيش بالمزيد من العمالة على الأرض مع الموردين.

كما واجهت "بوينغ" إثر الحادثتين تراجعاً حاداً في أسهمها بالأسواق الأميركية بالتزامن مع إعلان عدد من الدول إيقاف طائرات "ماكس 8" عن الطيران لحين إجراء التحقيقات اللازمة. وبعد حادثة طائرة "737 ماكس 8" التابعة للخطوط الجوية الأثيوبية قرب أديس أبابا، خسرت شركة "بوينغ نحو 24 مليار دولار خلال يومين، بحسب تقرير لوكالة "بلومبرغ".

وأشار محللو "بلومبرغ" إلى أن هذه الخسارة هي الأكبر التي تتكبدها "بوينغ" في يومين، منذ أكثر من عقد من الزمن. وأوضح تقرير نشره موقع "فاينانشيال تايمز" أن سهم "بوينغ" تكبد خسارة تعد الأكبر منذ الهبوط الحاد الذي تعرضت له أسهم الشركة بعد هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001.

كما أدى هذا الأمر إلى تزعزع الثقة بالشركة مما تسبب بانخفاض الطلبيات على طرازاتها وتراجع كبير في تسليمها.

انعكاسات حادثة طائرة "ألاسكا إيرلاينز" على "بوينغ"

لا شك في أن حادثة طائرة "737 ماكس 9" التابعة لشركة "ألاسكا إيرلاينز" وضع شركة "بوينغ" في أزمة عالمية خانقة بعد أن تم إيقاف 171 طائرة من الطراز عينه بشكل مؤقت من قبل إدارة الطيران الفيدرالية الأميركية لإجراء المزيد من التحقيقات حول الحادث. وأدّى اكتشاف عدد من الثقوب والبراغي الناقصة في بعض طائرات شركتي "ألاسكا" و"يوناتيد" إلى تعقيد الموقف من جديد خصوصاً في مسألة عيوب تصنيع تلك الطائرات.

واعترف الرئيس التنفيذي للشركة ديف كالهون بمسؤولية شركته عن الحادث، مؤكداً أن الشركة ستضمن عدم تكرار حادث انفصال سدادة مخرج الطوارئ لطائرة "ألاسكا إيرلاينز" خلال الرحلة مرة أخرى.

وحول توقعات بعض محللي أسواق المال عن الحادث، نشرت وكالة "رويترز" تقريراً نقلت فيه عن محلل "تي دي كوين" كاي فون رومور إن عملية الفحص التي ستجريها إدارة الطيران الفيدرالية للطائرة ستستغرق من 4 إلى 8 ساعات، مشيراً إلى أن هذه المدة أقل بكثير مما جرى خلال المشكلة الأخيرة في الطائرة نفسها والتي كانت تتعلق بالضغط الخلفي.

وتابع: "لذا من المرجح أن تكتمل عملية الفحص خلال أيام، وبمجرد أن يحدد المجلس الوطني لسلامة النقل أسباب الحادث، سيكون الإصلاح أسهل".

وعاد رومور وأشار إلى أن حال طلب إدارة الطيران لفحص متكرر لسدادات الأبواب في طائرات "ماكس 9"، ربما يؤخر التسليم المتوقع للطائرات إلى شركة "بوينغ"، ولكنه أكد في الوقت نفسه أنه بالنظر إلى رد فعل إدارة الطيران الفيدرالية على مشكلة حاجز الضغط الخلفي السابقة في طائرة 737، فإن هذا التأخير غير مرجح.

أما محلل "مورنينغستار" نيكولاس أوينز فقال إن عمليات فحص جسم الطائرة المصنوعة من قبل شركة "سبيريت" الموردة لشركة "بوينغ"، سيكون له تأثير مالي على الأخيرة أو عملائها، مشيراً إلى أن القيمة العادلة لأسهم الشركة عند 323 دولاراً لم تتغير.

ولكن من ناحية أخرى، رأى أوينز أن طبيعة الخلل ربما تؤثر على ثقة المسافرين والعملاء والمنظمين تجاه الشركة.

من جهتهم، قال محللو "جي بي مورغان" إن الصين أصبحت الجهة التنظيمية الأكثر أهمية بعد الحادث، مرجعين ذلك إلى أن الحكومة الصينية لم تسمح باستئناف عمليات تسليم طائرات "737 ماكس"، في الوقت الذي كانت تستعد فيه "بوينغ" لذلك.

وتوقع المحللون أن يؤدي حادث "ألاسكا" إلى تأخير عملية التسليم، على الرغم من أنهم ليس لديهم أي معلومات عن أن الشركات الصينية طلب أي طائرات من نوع "ماكس 9".