تابعت عن كثب وباهتمام كبير خلال الأشهر القليلة الماضية نتائج الجائحة العالمية وأثرها المباشر على نشاط قطاع تجارة التجزئة، ومن بينها تسجيل معدلات نمو غير مسبوقة في تبني الرقمنة على ساحة تجارة التجزئة، وذلك من موقعي كمسؤولة عن محفظة أعمال تضم 27 مركزاً تجارياً على مستوى منطقة الشرق الأوسط، وبالنسبة الى الكثيرين في هذا القطاع فقد جاءت هذه الفترة مصحوبة بصعوبات وتحديات غير مسبوقة.
وقد أدت تلك التبعات المتلاحقة إلى مسارعة الكثيرين في قطاع التجزئة لتبني التقنيات الحديثة ضمن نماذج أعمالهم، بدءاً من الاعتماد على المكالمات المرئية وحتى طرح تطبيقات ذكية تمكّن العملاء من شراء احتياجاتهم بمجرد تصفح بسيط على هواتفهم الذكية، وهي أدوات باستطاعتها جعل حياة الناس أكثر راحة وقضاء حاجياتهم من دون الاضطرار إلى ترك منازلهم، وقد أدى ذلك إلى تحويل مسارات تدفق المتسوقين من ممرات مراكز التسوق إلى واجهات التطبيقات ومواقع الإنترنت والتي لم تكن أكثر ازدحاماً في ما مضى.
ومع الأخذ في الاعتبار أن أكثر من ثلث سكان العالم لا يزالون يخضعون لإجراءات العزل والإغلاق، وآخرين كثر يسعون إلى تغيير طريقة عملهم وأسلوب حياتهم، فبالتأكيد ستتغير أساليب تجارة التجزئة بشكل جذري في ضوء تبعات الجائحة.
ومع ذلك، فليس من الضروري أن يتغير كل شيء، فلربما يلجأ المتسوقون إلى شراء حاجياتهم الضرورية إلكترونياً، ولكن هل هذا بالضرورة هو ما يريده عامة الناس؟ وأعتقد أن المتسوقين وخصوصاً بعد تلك الفترة الطويلة من التباعد الاجتماعي سيسعون إلى استعادة نمط حياتهم الطبيعي الذي يتسم بالتفاعل الإنساني الفعلي على أرض الواقع بعيداً عن المنصات الافتراضية.
وفي الواقع، وبالنسبة الى جميع العاملين في قطاع تجارة التجزئة، فإن التحول الرقمي السريع والرغبة المتجددة لاستعادة الحياة الطبيعية، يمثلان فرصة فريدة من نوعها لمراجعة نماذج أعمالنا بنظرة مستقبلية، وأعتقد أنه قد حان الوقت لإعادة التفكير في النماذج وتقديم تصورات مواكبة لقطاع مبيعات التجزئة في هذه الحقبة الجديدة.
مع كل تحد جديد يأتي حل جديد
أولاً، علينا الاعتراف بأن هناك عقبات على مستوى العالم تواجه متاجر التسوق التقليدية ومنشآت الترفيه بسبب فرض الإجراءات الوقائية الضرورية.
ولا تزال مختلف الحكومات حول العالم تعزز تدابير الصحة والسلامة العامة وفي الوقت ذاته إعادة فتح اقتصاداتهم. وضمن مساعيهم لتحقيق ذلك، قاموا بتأسيس مجموعة من التشريعات لحماية رفاه المجتمع صحياً ومالياً، ولكن كان لهذه الحزمة من الإجراءات التنظيمية تأثيرها على قطاع تجارة التجزئة حيث تمّ إغلاق أغلب المحال التجارية التقليدية لمدة زمنية طويلة وممتدة.
وأدى الإغلاق وفرض إجراءات العزل إلى تسارع نمو توجهات التجارة الرقمية، والتي كانت في الأساس تسجل نمواً ملحوظاً حتى قبل انتشار الوباء. وبحسب استطلاع رأي أجرته مؤسسة "ابسوس"، فإن اقتصادات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والتي تضم كلاً من دولة الإمارات والمملكة العربية السعودية ولبنان والمغرب، قد سجلت أرقاماً مضاعفة في أعداد المستهلكين الذين اعتمدوا على أدوات التجارة الإلكترونية لشراء منتجات كانوا في ما سبق يشترونها بشكل مباشر من المتاجر التقليدية.
وحتى قبل انتشار الجائحة، كانت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من بين الأعلى على مستوى العالم التي تسجل معدلات نمو سريعة في أسواق التجارة الإلكترونية، وخصوصاً منطقة دول مجلس التعاون. ويعدّ هذا التوجه بمثابة خبر سعيد بالنسبة الى المتاجر التقليدية الذين يسعون وبأعداد متزايدة إلى دمج نماذج أعمالهم التقليدية والرقمية كاستجابة لاحتياجات عملائهم.
وهو التوجه الذي أسميه "تقليدي رقمي"، والذي يمثل فرصة لنا لإبداع تجارب تسوق ضمن قنوات تسوق متعددة من خلال الدمج بين عالمي التسوق التقليدي والرقمي وهو ما يمنحنا القدرة على مواكبة تطلعات وتوجهات العملاء.
لم يكن التسوق الرقمي هو القناة الوحيدة التي شهدت صعوداً صاروخياً، فقد شهدت قنوات أخرى صعوداً ملحوظاً ومفاجئاً مثل نموذج (اشتريها إلكترونياً وتسلمها بنفسك من المتجر)، وبالنسبة الى كثيرين من العملاء، قدم لهم هذا الخيار فرصة للتحكم بشكل أكبر في متى وأين يمكن للعميل تسلّم مشترياته التي طلبها إلكترونياً. وعلى الطرف الآخر، وبالنسبة الى المتاجر التقليدية، فإن ذلك كان بمثابة فرصة لجذب العميل الى المتجر، ولربما قام بشراء منتجات أخرى خلال زيارته لهم، وفي الوقت ذاته، تمكين المتاجر من إدارة مستويات المخزون بشكل أفضل. وقد وقف بعض من هذه المعطيات وراء جهودنا لاطلاق خدمة "استلمها بنفسك" ومنصة "السوق الإلكتروني" في دولة الإمارات، وهي المنصة التي نعمل على توسيع نطاق خدماتها لتشمل المزيد من الأسواق.
ومن وجهة نظري، فإن العنصر الأبرز في نموذج قنوات التسوق المتعددة هو واجهة المستخدم. وتعدّ أسواق منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من أكثر المجتمعات على مستوى العالم من حيث انتشار استخدام الهواتف الذكية، بما يجعل وجود التطبيقات الذكية المصممة بعناية أمراً حتمياً. إن تلك التطبيقات هي نقطة التماس الأولى في عمل القنوات المتعددة، والتي أصبح يعتمد عليها الناس بدءاً من إجراء حجوزات المطاعم إلى حجز موقف السيارة، وعليه، فإن جودتها وتصميمها المتقن وحداثتها تعدّ عناصر أساسية لنجاحها وانتشارها.
لقد كانت تلك العناصر الأساسية هي الخطوط الإرشادية لنا في ماجد الفطيم عندما أطلقنا متجر "ذات" في مول الإمارات دبي ليقدّم تجربة تسوّق مُبتكرة تخاطب الحس والإبداع، وارفقناه مع اطلاق أحدث أدواتنا للتسوق الرقمي وهو تطبيق "ذات"، وهو تطبيق يجمع بين الأزياء والاعتناء بالصحة والجمال والثقافة، كما منحتنا هذه المبادرة رؤية واضحة لعقلية المتسوقين من جيل الألفية والتعرف على ما يتماشى معهم وما يحتاج إلى تطوير وفي الوقت ذاته يعدّ متجر "ذات" منصة لاجتذاب المزيد من المتسوقين الفعليين إلى تلك المساحة المصممة بعناية والتي تناسب عشاق التسوق الباحثين عن اكتشاف المزيد. إن مسمى "تقليدي رقمي" ينطبق حرفياً على هذه التجربة.
تنوع الخيارات
إن جهود تبني التحولات الرقمية بكل إمكاناتها الكامنة لا تستهدف تنشيط التسوق وحسب، فمنذ أكثر من عقدين، صاغ عالم الاجتماع الأميركي جورج ريتزر مصطلح "التسوق الترفيهي" والذي أعاد تعريف مواقع التسوق كمساحات لخوض التجارب والترفيه أيضاً.
وإذا ما أخذنا هذا المصطلح إلى ما هو أبعد من ذلك، سنجد أنه يمكننا الجمع بين حماسة التوجه نحو التسوق الافتراضي والمساحات الفعلية والتي تمتلك مراكز التسوق الكثير منها. ففي مول الإمارات على سبيل المثال، لدينا الآن تجربة الواقع الافتراضي "دريم سكيب"، والتي تُمّكن عملاءنا من التفاعل مع الحيتان والديناصورات وجميع أنواع الكائنات الافتراضية خلال زيارتهم الى مركز التسوق.
وإلى قطعة أخرى مثيرة للإهتمام في هذا المشهد العام، سنجد أن الرياضات الإلكترونية تعد اليوم تجارب ترفيهية يعتبرها المحللون من بين الأسرع نمواً. وفي أميركا الشمالية، أصبح "مول أوف أمريكا" الذي يضم 520 متجراً وجهة ترفيهية مميزة، بينما تفتخر ماليزيا الآن بتقديم مساحة ألعاب إلكترونية تصل إلى 17 ألف قدم مربع داخل أحد مراكز التسوق.
وعلى القدر ذاته، وفي مراكز التسوق التابعة لنا في "ماجد الفطيم" قمنا بتخصيص مساحات داخل مراكزنا وتحويلها إلى ردهات لممارسة الألعاب الإلكترونية حتى نتمكن من بناء علاقات وثيقة وذات مغزى مع شريحة اليافعين والشباب. ومن خلال التركيز على حقبة الألعاب الإلكترونية القديمة وكذلك النماذج المستقبلية التي تمثلها تقنية الواقع الافتراضي، تعرفنا على مزايا تحويل المساحات الفعلية إلى مراكز للترفيه الافتراضي تقدم مجموعة متنوعة من التجارب للعملاء، ولا يقتصر ذلك على نطاقنا الإقليمي وحسب وإنما توجه عالمي متصاعد.
حان وقت التفاؤل
ربما يتسأل البعض ما هو شعورك إذاً حيال ذلك وخلال الأشهر المقبلة؟ وأقول، من دون شك، فإن تلك الفترة ستشكل تحدياً لكل من المستهلكين والشركات والأعمال التجارية على السواء، ولكن مصدر تفاؤلي هو تلك الفرص التي ستوفرها التقنيات الصاعدة بوتيرة متسارعة في مواجهة تبعات الجائحة ستساعدنا على تحقيق أهدافنا داخل مراكز التسوق التابعة لنا.
ولدي إيمان عميق أن مراكز التسوق التي تعد اليوم في جوهرها مراكز لخوض التجارب والاستكشاف، ستستمر في لعب دورها كوجهات يقصدها الناس بغرض التسوق وقضاء وقت ممتع في تناول الطعام والترفيه. وستظل مساحاتها ملاذاً ممتعاً لاصطحاب العائلة وبناء الذكريات ومقابلة الأصدقاء، ولا أظن أن التجربة الرقمية بكل ما تقدمه من راحة وملاءمة، قادرة على تعويض التجربة الحسية والإنسانية التي نتوق لاستعادتها جميعاً من خلال التفاعل الطبيعي على أرض الواقع. فمركز التسوق بفهومه الشامل قادر على تجسيد الكثير من تجاربنا المتعلقة بالطعام والصحة والفنون والثقافة والتفاعل الاجتماعي، وهي كلها عناصر إنسانية خالصة لا يمكن الاستعاضة عنها بمجرد تجربة رقمية أو إلكترونية مهما كانت كفاءتها.
ويبقى على الشركات والأعمال التجارية أن تواكب التطور، وهذا شأن تفرضه طبيعة القطاع بوجه عام. ومن خلال الاستثمار في التقنيات والتجارب الفعلية المبتكرة، سنضمن استعادة نشاط قطاع التجزئة بمفهومه الأوسع والأشمل ودوره الحيوي في تحفيز الإبداع والابتكار وتعزيز تماسك النسيج الحضري لأسواقنا.