الأبعاد الجيوسياسية لصراعات الطاقة والنفوذ في شرق المتوسط   

  • 2020-06-18
  • 16:21

الأبعاد الجيوسياسية لصراعات الطاقة والنفوذ في شرق المتوسط   

  • د. خطار أبو دياب - باريس

تطرّق الاجتماع الأخير لوزراء الدفاع في حلف شمال الأطلسي للشكوى الفرنسية من تصرفات "عدائية" قامت بها البحرية التركية ضد سفن أوروبية تعمل ضمن مهمة تطبيق حظر تصدير الأسلحة إلى ليبيا، وتزامن ذلك مع التوتر المستجد بين تركيا واليونان (بسبب تنقيب أنقرة عن النفط والغاز بالقرب من جزيرة كريت في مياه متنازع عليها) وكل ذلك يتم في سياق التمدد التركي نحو ليبيا وبدء التنقيب عن مصادر الطاقة هناك، ويأتي ليسلط الضوء على صراعات الطاقة والنفوذ في البحر الأبيض المتوسط في العقد الثاني من هذا القرن، تلاحقت أحداث عدة متعلقة باستخراج وملكية الغاز الطبيعي في منطقة شرق البحر المتوسط: الخلاف على الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل؛ رفض تركيا بدء قيام قبرص بأي عمليات تنقيب طالما ظلت أزمة انقسامها قائمة؛ وتفرع ذلك إلى تجاذب بين مصر وتركيا، فالأخيرة رفضت اتفاقية ترسيم خط الحدود البحرية بين القاهرة وقبرص الموقَّعة العام 2013، باعتبار أنها تمس بحقوقها الاقتصادية، وتصاعد التجاذب مع مبادرة مصر تأسيس منتدى غاز شرق المتوسط في 2015 (بعد اكتشافات كبيرة في مصر ويضم المنتدى اسرائيل والاردن وقبرص واليونان وايطاليا وانضمت اليه فرنسا حديثاً).

هكذا يخفي تداخل الحدود البحرية بين مصر وإسرائيل وقبرص ولبنان وتركيا واليونان وبعيداً ليبيا، تسابقاً للفوز بالثروة الجديدة في حوض المشرق الذي يشبه البعض طفرة الغاز المنتظرة فيه بطفرة النفط في الخليج العربي في بداية السبعينات، لكن تقديرات الموجودات فيه التي تصل على الأقل إلى 3454 مليار قدم مكعبة من الغاز، وقربه من أوروبا يجعلاننا نقارنه بحوض بحر الشمال الحيوي.

بيد أن إحاطة حوض المشرق بسبعة بلدان متعارضة مع بعضها بعضاً منذ عقود ستعقّد الاكتشافات والتقدير الفعلي لكميات الغاز، والأدهى أن يؤدي التنافس على موارد الغاز والنفط المكتشفة إلى مسار جديد للصراع في منطقة مأزومة تعيش منذ 2011 مجريات "اللعبة الكبرى الجديدة". (اللعبة الكبرى القديمة والشهيرة كانت في القرن التاسع عشر في افغانستان وجوارها).

ويمكن لتداخل صراع النفوذ بين القوى الكبرى والإقليمية والتجاذب حول الطاقة أن يهددا باتخاذ النزاع أبعاداً أكثر خطورة في المستقبل القريب.

لا يمكن تجاهل أهمية حروب المياه في تشكيل المشهد الشرق الأوسطي مع ندرة هذا "الذهب الأخضر"، والأمثلة لا تنقص حول أنهار الفرات والأردن واليرموك والنيل، وكان لذلك دور في اندلاع حرب حزيران/يونيو 1967، واليوم يمثل الصراع حول سد النهضة الكبير فوق النيل مصدر قلق متزايداً.

ومما لا شك فيه أن اتصال أمن الطاقة العالمي بموارد واحتياطات البترول في الشرق الأوسط، سلط الأضواء على هذه المنطقة الواقعة في وسط الكرة الأرضية، وقاد ذلك واشنطن لبلورة سياساتها من خلال عامليْ حماية إسرائيل والتحكم بمواقع ونقل الطاقة.

واليوم، في موازاة اكتشافات الغاز والبترول الصخري، وأفق استنفاد موارد البترول الخام، يزداد التركيز على الغاز الطبيعي، ولذا تتنبه روسيا الأولى في سوق تصدير الغاز (تملك لوحدها نحو ربع إجمالي احتياطات الغاز المؤكدة في العالم، ويشكل إنتاجها 71 في المئة من واردات الغاز لوسط وشرق أوروبا) لتطور اكتشافات حوض المشرق الذي يهدد هيمنتها على السوق الأوروبية، ويمكن أن يحرر الاتحاد الأوروبي من التبعية لروسيا في مجال طاقة الغاز، ومن الواضح أنه من خلال القواعد الروسية على الساحل السوري تنسج روسيا سياسة تعتمد على البقاء لاعباً أساسياً في الشرق الأوسط، وتعتبر أن نفوذها المكتسب يمنع المنتجين في حوض المشرق من المسّ بمصالح موسكو على المدى المتوسط.

لكن ديمومة النفوذ الروسي العسكري أو السياسي لن تمنح موسكو القدرة على التحكم بمشهد الطاقة المتغير من شرق المتوسط إلى الخليج وترابط ذلك مع طلبات السوق والمصالح المزدحمة، ولذا، فإن تقديم الحرب في العراق في الماضي على أنها من أجل الطاقة لم يكن دقيقاً بل كانت له أبعاد متعددة.
وهذا ينطبق اليوم على الحروب السورية، التي لها جوانب تتصل بالسيطرة على موارد الطاقة وطرقها، لكنها معنية أساساً بتغيير وجه الإقليم بمجمله وإعادة تركيبه.
نحن إذاً، أمام مشهد جديد للطاقة في الشرق الأدنى، إذ إن التقنيات الحديثة للتنقيب عن الغاز والبترول في أعماق سحيقة تحت مياه البحار، أبرزت احتمال احتواء حوض شرق المتوسط على مكامن غاز تحتوي على احتياطات هائلة، وهذه المنطقة هي كذلك البوابة لاحتياطات النفط والغاز الرئيسية في العالم في منطقة الشرق الأوسط والخليج حتى الآن، ومع مرور الوقت ستترك الاكتشافات الحديثة آثارها على التوازنات العامة في المشهد الجيوبوليتيكي.
وهكذا، تؤجج عمليات ونوايا التنقيب عن الغاز نيران أزمات إقليمية محتدمة أو كامنة تشترك فيها كل من إسرائيل ولبنان وتركيا وقبرص واليونان ومصر وحتى روسيا.
 
فمن مصر إلى سورية عبر لبنان وإسرائيل وقبرص، يعتبر هذا المورد سلاحاً ذا حدين في منطقة تشهد حرباً باردة دولية وحروباً بالوكالة وأزمات إقليمية مزمنة. خلال مدى قصير من الزمن سوف تصبح مصر وإسرائيل من مصدري الغاز الأساسيين، إذ سيكون الإنتاج في المستقبل أكبر بكثير من احتياجات أسواقهما المحلية، ولأنه سيتم تسييل كميات من هذا الغاز في المرافق المصرية الموجودة، ستتجه من هناك الصادرات نحو أوروبا، حيث تراجع إنتاج بحر الشمال وهولندا بشكل حاد، لكن الصعوبة ستكمن في منافسة الغاز الروسي الرخيص الثمن، وفي هذا، تفسير واضح للجانب الاقتصادي من اللعبة الدولية الكبرى للسيطرة على الشرق الأوسط في القرن الحادي والعشرين، ومن جهة أخرى، يدلل بدء الحفر الاستكشافي قبالة سواحل قبرص على أن حوض المشرق قد يحتوي على احتياطات الغاز الهائلة، وكما إسرائيل، سيكون لبنان موطناً لاحتياطات كبيرة من الغاز في منطقته الاقتصادية الخالصة (EEZ)، ويرجّح أن تمتلك سورية أكبر احتياط نفطي في المشرق، إلى جانب احتمال وجود حقول جديدة للغاز والنفط في شمال وغرب العراق تنتظر الإفراج عنها.

وتتخطى المسألة إذاً ترسيم الحدود البحرية والمناطق الاقتصادية الخالصة، وترتبط بقدرة كل دولة في الدفاع عن سيادتها وحقوقها ومصالحها خلال حقبة انهيار أو تفكك أو تبعية بعض الدول العربية المعنية، وإذا كان لا يُستبعد تماماً أن يتطور الصراع المتعدد الأطراف حول الطاقة إلى مواجهة أو حرب إقليمية، وتندرج في هذا الاطار مسألة تحديد أو تعيين الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، والحديث عن احتمال استئناف الوساطة الاميركية او ربط ذلك بتوتر إقليمي بعد سريان قانون قيصر. 
لكن الجبهة الاخطر تتمثل بالطموح التركي اللامتناهي في ايجاد مصادر طاقة في عرض المتوسط قبالة قبرص أو ليبيا أو اليونان تطبيقاً لنظرية هجينة في القانون الدولي والعلاقات الدولية عن" الوطن الازرق الكبير" الذي تطوب به انقرة ملكيتها على سواحل واسعة حتى بحر ايجه مما ينذر بحقبة صراع وتجاذب طويلة المدى اذا لم يكن هناك من كوابح اقليمية ودولية تجعل من الأفضل أن يكون اقتسام موارد الطاقة مدخلاً للتعاون، بدل الموت من أجل المياه أو البترول أو الغاز.