سلامة يعيد تصويب مسار الجدل المالي

  • 2020-04-30
  • 14:55

سلامة يعيد تصويب مسار الجدل المالي

"المصرف موّل الدولة لكن لا سبيل له لمراقبة الإنفاق"

  • رشيد حسن

أعاد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة كرة الاتهامات والهجمات السياسية والأرقام والأحكام المتعجلة إلى ملعب الحكومة والسياسيين وغيرهم ممن يشاركون في الحملة المركزة عليه شخصياً وعلى المصرف المركزي والنظام المصرفي اللبناني.  

وقدّم سلامة دفاعه المركّز واثقاً هادئاً وبكرامة أظهرت للخصوم أنه غير متأثر بالحملات والعراضات "الشارعية"، كما إن قدر التفصيل والدقة في تقديم الأرقام والتواريخ والوقائع أريد منه ربما إظهار ضعف إلمام الناقدين بمختلف جوانب عمل البنك المركزي والسياسة النقدية، وبالتالي وضع علامة استفهام حول أهليتهم المصرفية واستطراداً حول النوايا الحقيقية للحملة.

كما اختار سلامة لكلمته المتلفزة مشهدية أريد منها التذكير بالموقع الوطني الرفيع لحاكم المصرف المركزي وللسلطة النقدية في البلاد، فهو تحدث من خلف مكتبه الشخصي في مصرف لبنان يحف به من الجانبين أعلام الجمهورية اللبنانية إلى جانب علم مصرف لبنان.

استقلالية مصرف لبنان

تعمد سلامة إظهار مؤشرات عدة على قوته في المواجهة وعلى اعتزامه تقديم ردّ مناسب على حملة سياسية مدعمة بلائحة طويلة من الادعاءات والاتهامات، لذلك هو أرفق دفاعه بعيار مدروس من الردود السياسية والمدعومة بالأرقام والمراجع القانونية، وبالتأكيد على تمسكه باستقلال البنك المركزي عن التدخلات السياسية، مؤكداً على أن مرجعيته هي قانون النقد والتسليف والمجلس المركزي لمصرف لبنان، وأن هذه الاستقلالية معتمدة في كل المصارف المركزية في العالم بهدف تمكين المصرف المركزي من القيام بعمله في رعاية الاستقرار النقدي والمصرفي، وأراد سلامة هنا القول بأن حملة الضغوط السياسية والإعلامية و"الشارعية" لن تجعله يرضخ لمحاولات تطويعه من قبل مراكز القوى السياسية أو الرضوخ للغة القوة.

وأشار سلامة في أكثر من مناسبة إلى فشل السلطة السياسية، بل وألمح إلى الدور الكبير للفساد السياسي في إيصال البلاد إلى الهوة السحيقة التي تقبع فيها الآن، فهو مثلاً، تحدث عن إنفاق الدولة لمبالغ ضخمة لاستيراد الفيول وغيره من السلع من دون أن يعلم ما إذا كانت الكميات المستوردة قد دخلت السوق المحلية أو تسربت إلى الخارج، كما تحدث عن استيراد بـ 4 مليارات دولار لم يكن لبنان في حاجة إليه وذكّر بمعارضته القوية لإقرار سلسلة الرتب والرواتب دفعة واحدة، معتبراً أنها من الأسباب المهمة لتفاقم العجز المالي وتراكم الدين العام في السنوات الأخيرة، وقال في معرض التلميح، إلى أن الأصل الحقيقي للأزمة في البلاد هو سوء الإدارة السياسية وأن البنك المركزي ملزم بموجب قانون النقد والتسليف بإقراض الدولة "إذا أصرّت" لكن ليست لديه وسائل للتحقق في الطريقة التي تنفق بها تلك الأموال. 

أخذوا المال وتركوا الإصلاحات

وأوضح سلامة أن البنك المركزي لم يكن وحده الذي مول المالية الحكومية، إذ إن القطاع المصرفي موّل والصناديق التنموية الدولية والعربية موّلت ومؤتمرات باريس موّلت الدولة والمستثمرين الدوليين اشتروا السندات اللبنانية (اليوروبوندز)، كل ذلك قمنا به جميعاً لأنه كان هناك وعود بالإصلاح ولكن هذه الوعود لم تترجم إلى فعل، وتابع القول: "لا أعرف ما إذا كانت هناك إرادة فعلية لتنفيذ الإصلاحات".

ولهذه الأسباب، فإن الأزمة المالية والنقدية في لبنان تعود في الحقيقة إلى أسباب سياسية قبل أن تكون ذات منشأ نقدي، ومن غير الممكن بالتالي التعويل على السلطة النقدية وحدها لمعالجة أزمة اقتصادية سياسية شاملة، لأن الدور الأول يعود إلى السياسات الاقتصادية والمالية للدولة والتوافق السياسي.

وللذين يريدون أن يأخذوا عليه مواصلته لتمويل الدولة على الرغم من تراكم العجز، احتج سلامة بالقول: هل نرفض تمويل المعاشات أو الفيول أو الأدوية، مشدداً على أن مصرف لبنان مستمر في تمويل القمح والأدوية والنفط، وهذا يخدم اللبنانيين كما إن أسعار البنزين والدواء لم ترتفع وهذا يخدم المواطن لأن المصرف المركزي كانت لديه احتياطات كافية من العملة الأجنبية.

لست حاكماً بأمري

وأوضح حاكم مصرف لبنان أن هذه القرارات كافة لا تصدر عن الحاكم منفرداً، بل عن المجلس المركزي لمصرف لبنان الذي هو أعلى سلطة في البنك ثم تبلغ إلى مفوض الحكومة في المجلس المركزي الذي يبلغها بدوره إلى وزارة المالية، وهذا يعني أن كل القرارات التي يتخذها البنك المركزي، صدرت بموافقة الحكومات المتعاقبة، وكل قول يخالف ذلك اعتبره سلامة في مداخلته المتلفزة "افتراء يهدف إلى تضليل الرأي العام" كما إنه من قبيل "الإهانة" الزعم بأن القرارات المالية في مصرف لبنان محصورة بشخص الحاكم. فالحاكم يتولى السياسة النقدية في البلاد بالاشتراك مع المجلس المركزي الذي يمثل السلطة العليا في البنك المركزي ويضم أربعة نواب للحاكم ومديري وزارة المالية والاقتصاد ومفوضاً للحكومة في المجلس.

وبحسب سلامة، فإن الحاكم مثلاً لا يمكنه بموجب القانون صرف أي مبلغ يزيد على 150 مليون ليرة (أو مئة ألف دولار) إلا بموافقة المجلس المركزي.   

ردّ مباشر على دياب

ركز الحاكم جزءاً مهماً من كلمته للرد بقوة على اتهام رئيس الحكومة له بنقص "الشفافية" ولم يتردد حتى في تسميته والتوقف عند اتهاماته له بالتفرد، مظهراً ليس فقط، أن متَهميه ليسوا فقط غير مهتمين بالحقيقة بل إنهم على الأرجح لا يقرأون التقارير أو يدققونها. وعلى سبيل المثال، ذكّر سلامة دياب أنه بتاريخ 19 آذار/مارس زاره وقدّم له التقارير المحاسبية المدققة كافة إلى مصرف لبنان والتي سلمت أيضاً إلى وزارة المالية وإلى نائب رئيس مجلس الوزراء، بعدها أمضى خمسة من المدراء وقتاً في شرح تلك التقارير والإجابة على أسئلة المندوبين من وزارة المالية، واسترسل سلامة في إظهار مدى التزام البنك المركزي بالإفصاح عبر نشر تقريره النصف الشهري مع ملاحظات تستهدف التزام أكبر قدر من الشفافية وأن الميزانيات السنوية للبنك المركزي مدققة من شركتين عالميتين للتدقيق الخارجي وترسل تقاريرهما إلى وزارة المالية، وبهذا لا يوجد لدى البنك المركزي أي معلومات مكتومة، وكل ما يقوم به مسجل ومتوافر لمن يريد الاطلاع عليه.

وكشف سلامة عن امتلاك البنك المركزي لسيولة يمكن استعمالها بقيمة 20 مليار دولار، مضيفاً أن البنك المركزي كان يملك أكثر من ذلك إلا أنه تمّ استهلاك ما يوازي 1.7 مليار دولار في الأشهر الماضية لتمويل حاجات ملحة مثل الفيول والغذاء والأدوية وغيرها.

وشدد على أن "مصرف لبنان يسيطر على 60 في المئة من الدين بالليرة اللبنانية عبر سندات الخزينة التي يحملها المصرف المركزي للدولة اللبنانية مؤكداً أن البنك المركزي ساهم في خفض خدمة الدين العام من خلال إقراض الدولة بفوائد متدنية.

دفاع عن الهندسات

ودافع سلامة عن اللجوء في وقت سابق إلى سياسة الفوائد المرتفعة والهندسات المالية التي تعتبر تكاليفها سلبية بالنسبة إلى نسب الفوائد بالقول إنها مقبولة، وأن البنك المركزي اضطر إلى اعتمادها لكسب الوقت وعلى أمل أن تستفيد الدولة من ذلك لتحقيق الإصلاحات واستقطاب الأموال من الخارج، لكن "سيدر" لم ينفذ وكذلك الإصلاحات.

وأكد أن المصرف المركزي استطاع المحافظة على سعر الصرف وأن التطمينات التي أعلنها في شأن الليرة كانت صادقة ونابعة من الرغبة في حماية مستوى عيش المواطن، إلا أن هذه التطمينات فقدت مفعولها بعد صدمات مدمرة من إقفال المصارف في أواخر 2019 والتخلف عن دفع مستحقات اليوروبوندز وفيروس كورونا، وعلى الرغم من كل ذلك بقي النظام واقفاً على رجليه، ونحن نطمئن اللبنانيين ونؤكد أن الودائع موجودة وهي تستعمل.

حماية الليرة أولوية

وأعلن سلامة أن لا ضرورة للعمل بالـ "هيركات" لأنه يؤخر إعادة إقلاع القطاع المصرفي ودوره في تمويل الاقتصاد، مضيفاً: "لن نُفلِّس مصارف لأجل المودعين"، مشيراً إلى أنه "طلب من المصارف زيادة رساميلها وأن المبلغ يمكن أن يصل إلى 4 مليارات دولار في أول حزيران/يونيو، كما إن المصارف التزمت وتحاول تنفيذ الزيادة بأسرع وقت ممكن".