هل تتسبب شبكات الجيل الخامس بمشاكل صحية؟

  • 2020-12-21
  • 09:21

هل تتسبب شبكات الجيل الخامس بمشاكل صحية؟

حتى الآن لا أدلة علمية حاسمة حول تأثيرات شبكات الاتصالات على صحة الانسان والحيوان والبيئة

  • إياد ديراني
منذ أن بدأ الجيل الخامس من شبكات الاتصالات النقالة بالانتشار حول العالم، ظهرت مقالات ومقاطع فيديو في وسائل إعلامية مختلفة، توحي أو تؤكد أن هذه الشبكات تؤدي إلى مشاكل صحية، وتسبب أمراضاً مختلفة. ولاقت هذه الأخبار صدى في البلدان العربية التي نشرت شبكات الجيل الخامس، خصوصاً بعد انتشار مقطع فيديو خلال العامين الماضيين على وسائل التواصل الاجتماعي لطيور نافقة في ظروف غامضة بعد اختبارات خاصة بشبكات الجيل الخامس في إحدى دول أوروبا، لكن هذه الأخبار لم تقدم دلائل أو أبحاثاً أو دراسات من مصادر موثوقة تحسم هذا الجدل، الذي لا يزال يدور في ميادين شبكات التواصل الاجتماعي وبعض وسائل الإعلام. 

الترددات الراديوية 

وصحة الانسان

يؤكد بحث أجرته منظمة الصحة العالمية أنه حتى اليوم "الأثر الصحي الوحيد لنطاقات الترددات الراديوية المُثبتة في المراجعات العلمية يرتبط بارتفاع درجة حرارة الجسم بما يصل إلى درجة مئوية واحدة نتيجة التعرض لنطاقات عالية الكثافة تتواجد فقط في منشآت صناعية معينة، مثل مسخنات الترددات الراديوية، وتضيف منظمة الصحة في مقال نشرته في موقعها (who.int) تحت عنوان "المجالات الالكترو - مغناطيسية والصحة العامة"، أن مستويات التعرض للترددات الراديوية الصادرة عن المحطات الرئيسية والشبكات اللاسلكية منخفضة للغاية، وبالتالي فإن أي ارتفاع في درجة حرارة الجسم هو ضئيل للغاية ولا يؤثر أبداً على صحة الإنسان".

أما "إدارة الغذاء والدواء الأميركية" FDA فتذكر في "مراجعة" Review نشرتها في موقعها (FDA.gov) حول "علاقة مرض السرطان بالترددات الراديوية" أنه حتى اليوم لا يوجد أي دليل علمي مؤكد ومتكامل يُثبت أن التعرض لطاقة الترددات الراديوية الصادرة عن الهواتف النقالة يسبب مشاكل صحية. وتضيف أن الدراسات الوبائية وبيانات مراقبة الصحة العامة والدراسات المخبرية الداعمة المتوفرة حالياً حول ترددات الهواتف النقالة، تقدم أدلة قوية تدعم رأي "إدارة الغذاء والدواء" في هذا الصدد. وتقول "إدارة الغذاء والدواء" أنه بناء على تقييم المعلومات المتوفرة حالياً، ترى الإدارة بأن حجم الدليل العلمي لا يدعم ادعاء زيادة المخاطر الصحية نتيجة التعرض للترددات الراديوية الناتجة عن استخدام الهواتف النقالة، بما يعادل أو أقل من حدود التعرض للترددات الراديوية التي وضعتها هيئة الاتصالات الفيدرالية.

وبحسب أوراق عمل الهيئة المنشورة في موقعها على الانترنت، فمن الواضح أنها لا تزال ترصد هذا المجال من خلال ما تسميه "قاعدة بيانات المراقبة وعلم الأوبئة والنتائج النهائية" التي يشرف عليها المعهد الوطني للسرطان، في معاهد الصحة الوطنية الأميركية. وتكشف بيانات المراقبة وعلم الأوبئة والنتائج النهائية الخاصة بالهيئة عن عدم تغير معدلات سرطان الدماغ في الولايات المتحدة الأميركية على الرغم من الزيادة الكبيرة في عدد مستخدمي الهواتف النقالة.

وتشير بيانات المعهد الوطني للسرطان بوضوح إلى عدم زيادة معدلات الإصابة بأمراض سرطان الدماغ والجهاز العصبي خلال العقد الأخير، على الرغم من الزيادة الهائلة في استخدام الهواتف النقالة خلال تلك الفترة، لا بل يقدر "مركز بيو للأبحاث" بأنه منذ العام 2002 ولغاية 2019، ارتفع عدد السكان الذين يستخدمون الهواتف النقالة من 62 في المئة إلى 96 في المئة، ولم يحصل ارتفاع مواز على مستوى معدلات سرطان الدماغ والأنسجة العصبية في الفترة ذاتها.

وعلى الرغم من إظهار بعض الأبحاث لتغيرات بيولوجية ضارة ترتبط بطاقة الترددات الراديوية، فإنه لم يجر تكرار هذه الدراسات، ولم تتوصل معظم الدراسات المنشورة إلى إظهار ارتباط بين التعرض لطاقة الترددات الراديوية الصادرة عن الهواتف النقالة وظهور مشاكل صحية.

مخاوف مشروعة

تركّز "اللجنة الدولية للحماية من الإشعاع غير المؤين"، وهي مؤسسة عالمية مقرها في ألمانيا، على بحوث الحماية من الإشعاع. وأكملت مؤخراً مراجعة مدتها 7 سنوات حول الترددات الصادرة عن الشبكات اللاسلكية للهواتف النقالة، بما في ذلك ترددات الجيل الخامس، وأكدت على أنه لا يوجد حتى الآن سبب يدعو للاعتقاد بأن الترددات الصادرة عن الشبكات اللاسلكية للهواتف النقالة تسبب الوفاة.

لكن هل المعلومات الصادرة عن منظمة الصحة العالمية وإدارة الغذاء والدواء الأميركية و"اللجنة الدولية للحماية من الاشعاع" وغيرها من الإدارات والمؤسسات ومراكز الأبحاث كافية لحسم هذا الجدال حول شبكات الاتصالات عموماً وشبكات الجيل الخامس خصوصاً؟ بالطبع لا، فالدراسات والأبحاث مستمرة، ولهذا يمكن القول إنه حتى اليوم لا دلائل علمية متكاملة تربط بين هذه الشبكات والأمراض، وهذا هو موقف الشركات الصانعة لشبكات الاتصالات من الجيل الخامس، ومن بينها "هواوي" التي سبق أن أكدت أن العلم شيء والمزاعم شيء آخر، معتبرة أنه لا بدّ من تقديم أدلة دامغة عند الحديث عن الجوانب الصحية المتعلقة بالجيل الخامس. وهواوي هي من بين الشركات الرائدة في هذا المجال، وتحتل مركزاً عالمياً في قطاع الاتصالات خصوصاً على مستوى شبكات الجيل الخامس.  

على أي حال، المخاوف وهي بطبيعة الحال مشروعة، لا تزال تنتشر وبشكل متزايد، وتأخذ حيّزاً في وسائل الإعلام الإقليمية والعالمية وتركز على الترددات الإشعاعية الصادرة عن شبكات الجيل الخامس والآثار السلبية التي يمكن أن تسببها على الصحة. وظهرت معلومات تفيد بأن الترددات الراديوية الصادرة، ولاسيما عن شبكات الجيل الخامس، يمكن أن تلحق ضرراً بـ "الحمض النووي الريبوزي منقوص الأوكسجين" وتساهم في الإصابة بمرض السرطان، وتسبب العقم واضطرابات طيف التوحد، علاوة على تعطيل استقلاب الخلايا، والتسبب بالشيخوخة المبكرة وتحفيز نشوء أمراض أخرى من خلال إنتاج بروتينات الإجهاد. وقد انتشر منشور عبر وسائل التواصل الاجتماعي في شهر تشرين الثاني/نوفمبر من العام 2018 يُظهر موت مئات الطيور في ظروف غامضة بعد اختبار شبكات الجيل الخامس في هولندا؛ وقد ثبت في ما بعد أن هذه المعلومات لا أساس لها من الصحة. ومع أنه من الطبيعي وجود شكوك حول التكنولوجيات الحديثة، إلا أنه وحتى اليوم، لا يوجد أي بحث مؤكد ومتكامل يحسم أن تقنيات الجيل الخامس تلحق ضرراً بصحة الإنسان، أو الحيوان أو البيئة. 

متى تكون الموجات ضارة؟ 

يصنّف العلماء الموجات الإشعاعية على أنها مؤينة أو غير مؤينة بناءً على ما إذا كانت الطاقة الناتجة عن الموجات الكهرومغناطيسية قوية بما يكفي لإتلاف الخلايا البشرية. ويشير مصطلح تأيين الموجات الإشعاعية إلى الموجات التي تنتشر بترددات مرتفعة، على غرار الأشعة فوق البنفسجية، والأشعة السينية، والأشعة الكونية، والإشعاع النووي، وينتج هذا النوع الإشعاعي طاقة كافية لإتلاف الهياكل الجزيئية مثل الحمض النووي، وهو ضار على صحتنا.

وبحسب بعض الدراسات، تندرج جميع ترددات شبكات الأجهزة النقالة، بما فيها شبكات الجيل الخامس، ضمن النطاق غير المؤين، أي أنه ليس من نوع الاشعاعات التي تضرّ بالصحة. وتضيف أن نطاقات ترددات الجيل الخامس تبتعد عن وضع التأيين أكثر من الأشعة تحت الحمراء، والضوء المرئي، والأشعة فوق البنفسجية، كما إنه لم يثبت أن الإشعاع الكهرو - مغناطيسي لشبكات الجيل الخامس يعرض الخلايا للتلف.

ومن المعروف أن شبكات الجيل الخامس تستخدم نطاقي الموجات الفرعية 6 جيغاهرتز وموجة الميليمتر. وتعتبر الموجة الفرعية 6 جيغاهرتز أقل من 5 جيغاهرتز، المستخدمة في شبكات الجيل الرابع والإنترنت اللاسلكي المنزلي (2.4 جيغاهرتز/ 5.8 جيغاهرتز)، بينما يتراوح تردد موجة الميليمتر ما بين 24.25 و52.6 جيغاهرتز، وهي أعلى فقط من حيث الحجم.

العامل الآخر المهم في هذا الإطار هو كثافة موجات الاتصالات، وتشير دراسات أنه عند معدلات الكثافة المرتفعة (مستوى الطاقة)، يمكن للترددات غير المؤينة توليد الحرارة. لذلك، لا تؤدي انبعاثات الأجهزة النقالة إلى زيادة درجة حرارة الكائنات الحية في نطاقها، كما تضع الحكومات معايير صارمة تشمل ما هو أقل بكثير من مستوى التأثير الحراري. وعلى سبيل المثال، يسمح الاتحاد الأوروبي بما يصل إلى 10 واط لكل متر مربع على مستوى كثافة موجات الاتصالات، لكن الاختبارات الفعلية تُظهر أن الانبعاثات اللاسلكية تتسبب بما هو أقل بكثير من ذلك. وتشير تقارير أنه عند أسفل محطة الاتصالات الأساسية مباشرة، فإن ترددات الجيل الخامس تعادل حرارة مجفف الشعر. وعلى بعد 15 قدماً، تكون مساوية لنحو 0.1 في المئة من الحرارة التي يولّدها المايكرويف المنزلي. وقد أجريت دراسات مكثفة لعقود على سلامة الترددات اللاسلكية، كما أسست منظمة الصحة العالمية "مشروع المجال الكهرومغناطيسي" في العام 1996 لدراسة الآثار الصحية للتعرض الطويل للنطاقات الإلكترونية والمغناطيسية شديدة الانخفاض، وتم الإعلان عن النتائج في العام 2008. 

لا شك أن المخاوف مشروعة تجاه التكنولوجيات المختلفة ومن بينها شبكات الاتصالات والجيل الخامس تحديداً خصوصاً لأنه جديد، لكن من الضروري وجود جهات مُحايدة وحكومية تتابع دراسة التأثيرات المُحتملة على المدى القصير والمتوسط والبعيد، والتأكد منها وتنفيذ اختبارات متواصلة، لحسم هذه القضايا بشكل علمي وتوعية الرأي العام حولها.