تحولات صندوق الاستثمارات العامة السعودي
تحولات صندوق الاستثمارات العامة السعودي
كيف انتقل الصندوق في خمس سنوات إلى القوة الدافعة لبرامج ومشاريع رؤية 2030
- رشيد حسن
شهد صندوق الاستثمارات العامة السعودي في أقل من خمس سنوات تحولات متسارعة قلما شهدها أي صندوق سيادي في العالم، ويكفي أن أحد عناوين هذه التحولات هو أن عدد العاملين فيه قفز في هذه المدة القصيرة من 40 موظفاً في العام 2016 إلى 200 موظف في العام 2017 ثم إلى 1000 موظف في العام 2020. وبالطبع مع وصول حجم الجهاز التنفيذي إلى هذا العدد يمكن تخيُل حجم التحول الذي رافق النمو الكمي في المؤسسة على صعيد الهياكل القيادية ومخزون الخبرات والقدرات الفنية، وكذلك محفظة الأصول التي تتوزع في مختلف بقاع الأرض في الشركات المحلية والدولية وفي مختلف القطاعات وفئات الاستثمار والتي حققت بدورها قفزات متتابعة من 152 مليار دولار في مطلع العام 2016 إلى نحو 390 ملياراً في نهاية الفصل الثالث من 2020 مع توقع أن تصل إلى رقم 400 مليار دولار وهو الرقم الذي التزم الصندوق بتحقيقه في خطته للفترة 2018-2020.
وفي سياق هذا التحول، كان الصندوق يضم إلى جهازه المصرفي والاستثماري كفاءات جديدة بصورة متواصلة، وأكثر ما يلفت في اداء الصندوق ويدل على كفاءة الفريق القيادي، هو أنه تمكّن من "هضم" النمو الكمي السريع.
لكن التحول الذي شهده صندوق الاستثمارات العامة ولا يزال لا يمكن فصله عن دينامية التحول الوطني التي أطلقتها رؤية 2030 واتخذت لأول مرة شكل برامج حددت لها أهداف تفصيلية كمية ونوعية وتواريخ زمنية محددة وآليات للمتابعة والمراجعة والمحاسبة.
وفرض هذا الالتزام بدوره أهم تعديل في هيكل الحكومة السعودية في العصر الحديث وهو إنشاء مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية برئاسة ولي العهد السعودي ليكون بمثابة القيادة اليومية المسؤولة عن تحقيق ذلك التحول، وجرت إعادة صياغة آليات عمل الوزارات باتجاه تحولها من دورها القطاعي (أي إنفاق ما خصص لها من الميزانية العامة على المجال الموكل إليها) إلى دورها الجديد وهو العمل كفريق حكومي واحد وإن بمهمات وتخصصات مختلفة لتنفيذ استراتيجية التحول الوطني. في هذا الإطار بالتحديد، اتجهت أنظار القيادة السعودية في العام 2016 وبالتزامن مع الإعلان عن رؤية 2030 إلى دور صندوق الاستثمارات العامة السعودي في تحقيق اهداف رؤية 2030 وبرنامج التحول الوطني.
فهذا الصندوق الذي كان قد تطور بقفزات ثابتة مع مرور السنين يعود تاريخ تأسيسه إلى العام 1971 أي قبل نحو 50 عاماً وهو أنشىء ليكون المالك لحصص الدولة في شركات القطاع العام، وفي الوقت نفسه الذراع الاستثمارية للدولة في المشاريع الوطنية الاستراتيجية. لكن رغم أن أصول الصندوق تنامت مع مرور الوقت ورغم توسع الاقتصاد السعودي وتنامي مصالح الدولة ودورها الاقتصادي، إلا أن دور صندوق الاستثمارات العامة بقي ضمن حدود المهمة التي رسمت له في نظام تأسيسه، إذ كانت الحكومة عبر وزارة المالية هي التي تتولى الإنفاق على المشاريع بينما يتولى البنك المركزي (مؤسسة النقد العربي السعودي آنذاك) الإشراف على الشؤون النقدية والاحتياط الخارجي للدولة، ولم تكن فكرة الاستثمارات المباشرة في مروحة واسعة من الأصول الأجنبية مطروحة بعد بالنظر لتفضيل السعودية اجتناب مخاطرات الأسواق والاحتفاظ باحتياطاتها على شكل أصول سائلة مثل سندات الخزانة الاميركية بحيث المتاح تسييلها بسرعة لدعم الميزانية الحكومية في مراحل الشح المالي وتراجع مداخيل النفط.
لكن اختلف الأمر تماماً بعد إعلان رؤية المملكة 2030 الاستراتيجية، إذ رأت القيادة السعودية أن صندوق الاستثمارات العامة يمكنه أن يلعب، بعد إعادة تحديد أهدافه ونظام عمله وتزويده بالموارد المالية الكافية، دوراً محورياً في تحقيق أهداف التحول الوطني، لذلك، فإن من أهم القرارات التي تمّ اتخاذها في سياق الإعداد لإطلاق رؤية 2030 كان قرار نقل المسؤولية المباشرة عن الصندوق من وزارة المالية إلى مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، ثم زيادة موارده المالية بشكل كبير وإعادة تحديد مهامه بما يجعل منه الصندوق السيادي للسعودية.
وترتب على ذلك القرار الاستراتيجي تغييران أساسيان في دور الصندوق:
التغيير الأول هو أنه أصبح الذراع الاستثمارية المكلفة باستثمار جزء من الموارد المالية للمملكة في تكوين محافظ استثمارية في الشركات الدولية إما لاهداف استراتيجية وهي المساهمة في نقل التكنولوجيا واستقطاب الشراكات العالمية او لتحقيق العوائد ودعم موارد الدولة، وتحول بذلك إلى صندوق سيادي وازن يعزز مكانة المملكة في الأسواق العالمية.
التغيير الثاني هو أن الصندوق سيكون عليه، إضافة إلى إدارة حصص الدولة في الشركات المحلية، استثمار جزء أساسي من موارده المستحدثة في استثمارات استراتيجية داخل المملكة، لكن على أن يتم توجيه تلك الاستثمارات بما يخدم استراتيجية التحول الوطني، ومن أجل تحقيق هذه الأهداف، فإن على الصندوق أن يلعب أحياناً دوراً ريادياً في إطلاق المشاريع العملاقة والشركات ذات البعد الاستراتيجي أو القطاعات الاقتصادية الجديدة مثل الترفيه والسياحة والصناعات التكنولوجية والصناعات الدفاعية وحيث يتوقع أن يؤدي تبنيه للمشروع إلى تشجيع الاستثمارات الخاصة والأجنبية على المشاركة في الاستثمار، وهو ما يدخل ضمن أهداف رؤية 2030 بزيادة دول القطاع الخاص في الاقتصاد السعودي واستقطاب الاستثمار الاجنبي.
وبذلك بات صندوق الاستثمارات العامة السعودي متميزاً عن غيره من الصناديق السيادية في المسؤوليات التي ألقيت على عاتقه في تنمية الاقتصاد المحلي.
استراتيجية مرنة
وأكثر ما يلفت في أداء الصندوق، ويدل على كفاءة الفريق القيادي، هو أنه تمكن من "هضم" النمو الكمي السريع، وتعطي التغييرات المهمة الأخيرة في المواقع القيادية لصندوق الاستثمارات العامة مثالاً قوياً على مهام صندوق الاستثمارات العامة المتعددة، كما تدل على درجة المرونة التي تُميز استراتيجية الصندوق الاستثمارية في الموازنة بين الدورين المحلي والدولي وعلى الأخص في ما يتعلق بهيكلة المحفظة وتعيين الأهداف وتخصيص الموارد، إذ تمّ مثلاً بموجب تلك التعيينات والمناقلات تعزيز فريق الشركات والسوق السعودي في خطوة تعكس رغبة الصندوق في إعطاء اهتمام خاص بالسوق السعودي، وهذا الموقف فرضته الظروف التي نجمت عن تراجع أسعار النفط والانكماش الاقتصادي الذي تسببت به جائحة الكورونا، إذ تسبب الحدثان ثم توجيه الدولة موارد ضخمة لمكافحة الجائحة وتعويض المتضررين باستنزاف نسبة من الموارد الحكومية التي كانت مخصصة للتنمية، كما أثرا على القطاع الخاص وعلى الموارد المحلية المتاحة للاستثمار في مشاريع رؤية 2030.
ولهذا السبب ولأن عجلة تنويع الاقتصاد يجب أن تستمر، وإن بوتائر أبطأ، فإن الفريق الاقتصادي الذي يقوده الأمير محمد بن سلمان قرر توجيه موارد أكبر إلى السوق السعودي بهدف التعويض عن تراجع الاستثمارات الخاصة والإنفاق الحكومي على المشاريع، وهذا الموقف عبّر عنه ولي العهد عندما أعلن مؤخراً عن نيّة صندوق الاستثمارات العامة استثمار نحو 40 مليار دولار في اقتصاد المملكة خلال العامين 2021 و2022.
إن السبب الأهم وراء إعلان ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان هو أن الصندوق بات يتحمل مسؤولية خاصة في الحفاظ على وتيرة مقبولة في تنفيذ مشاريع رؤية 2030 وخصوصاً المشاريع الكبرى والقطاعات الجديدة التي يتوقع أن تبدأ المساهمة بتحقيق مداخيل مهمة للدولة السعودية لكنها تتطلب أولاً توفير استثمارات كبيرة يشارك فيها القطاع الخاص. وأحد الأمثلة الناجحة على هذا الدور التحفيزي للصندوق مبادرته لتأسيس الشركة الوطنية لإعادة التمويل العقاري بهدف زيادة سيولة القطاع وتمكين الجهات المقرضة من مضاعفة قدراتها على تلبية الطلب على القروض السكنية، وقد حققت هذه المبادرة نجاحاً كبيراً في استكمال آلية تطوير القطاع السكني وتلبية الطلب الكبير للسعوديين على المنازل الخاصة، كما إنها عززت قدرة الدولة على تحقيق أحد الاهداف المعلنة لرؤية 2030 وهو أن يصبح 70 في المئة من السعوديين مالكين لمنازلهم في حلول العام 2030، وهذا نموذج عن الأدوار التي يمكن لصندوق استثماري بجهوزية مالية وفنية القيام به ولا يمكن القيام به بالفعالية نفسها من قبل الوزارات أو المؤسسات المالية الحكومية الباقية.
ما يساعد الصندوق على القيام بهذا الدور الاستراتيجي أنه بات مصمماً وجاهزاً للعمل بفعالية مع القطاع الخاص، وهو بحكم خبراته الاستثمارية المتزايدة أصبح يتمتع بالقدرة على استقطاب الشراكات الاستراتيجية في عدد من القطاعات الجديدة أو المشاريع الكبرى التي تمثل أهم محاور خطة تنويع الاقتصاد السعودي وفق رؤية 2030.
استراتيجية الاستثمار الخارجي
يهدف الصندوق ان تمثل الاستثمارات المحلية 75 في المئة من اجمالي استثمارات صندوق الاستثمارات العامة، لكن تركيز الصندوق على مشاريع خطة التحول الوطني لا يتم على حساب اهتمامه الموازي ببناء محفظة استثمارات خارجية قوية يمكن أن تحقق للمملكة مداخيل تساهم في تنويع قاعدة الاقتصاد وتخفف اعتمادها على النفط، ويلاحظ في هذا السياق النشاط الاستثماري الكثيف للصندوق في مطلع العام 2020 عندما قرر الاستفادة من التراجع الكبير في أسعار أسهم الشركات المدرجة ليستثمر نمو 7 مليارات دولار في بناء حصص في بعض الشركات الأميركية الكبرى، وتبع ذلك استثمار بقيمة 1.3 مليار دولار لشراء حصة تزيد قليلاً على 2 في المئة في شركة Reliance الهندية، وفي كل هذه المبادرات التي تم قسم كبير منها في العام 2020 كان الصندوق ملتزماً بتحقيق الأهداف الموضحة في برنامج عمله والتي تستهدف تطوير محفظة استثمارات عالمية منتجة لدخل يمكن أن تساهم في تنويع قواعد الاقتصاد السعودي وفق رؤية 2030.
لكن سواء في برنامجه الاستثماري الدولي أم المحلي، فإن صندوق الاستثمارات العامة يظهر مرونة كبيرة في اعتماد الأهداف وقدرة على تعديل تكتيكاته الاستثمارية وفقاً للحاجة ولتبدّل الظروف. ففي سوق دولية تحفل بالمخاطر والمتغيرات انتقل الصندوق من أسلوب تخصيص استثمارات كبيرة بمليارات الدولارات لشركة واعدة مثلاً إلى أسلوب شراء حصص أصغر في عدد أكبر من الشركات التي يرى فيها فرصة لتحقيق دخل منتظم في المدى المتوسط أو ربح رأسمالي مغر في الحالة التي تم فيها شراء شركات ناجحة لكن بأسعار منخفضة نتيجة تأثر أرباحها وسعر سهمها بأزمة الكورونا.
ريادة الحوكمة
بالنظر الى حجم أعماله وطبيعته المتخصصة وانتشاره في دول العالم المتقدمة والناشئة فقد حرص صندوق الاستثمارات العامة على الأخذ بأفضل قواعد الحوكمة أو ما يسمى
الـ Governance في إدارة نشاطاته وأعماله، وتقضي هذه القواعد بممارسة أعلى درجات الشفافية والإفصاح في المعاملات المالية والإدارية واستحداث مستويات متعددة للرقابة والمتابعة والتدقيق الداخلي والإشراف، إلا أن الصندوق بدأ السعي لتطبيق النموذج المتقدم للحوكمة التي يمارسها على الشركات السعودية التي يمتلك فيها أكثرية الأسهم أو يسيطر على نسبة مؤثرة منها، ويظهر الجدول المرفق أن صندوق الاستثمارات العامة يمتلك حصصاً مؤثرة في 20 شركة سعودية مساهمة بلغت قيمتها السوقية وفق ارقام السوق في بتاريخ 5 يوليو 2020 حدود 84،9 مليار دولار اي ما كانت نسبته 1،72 في المئة من اجمالي رسملة السوق آنذاك وقرابة 18 في المئة عند احتساب ارامكو.
ويمتلك الصندوق حصة مسيطرة في 15 شركة منها على الأقل، وهي تمثل شركات مهمة للغاية وقطاعات أساسية من الاقتصاد السعودي مثل الطاقة والبتروكيماويات والاتصالات والمصارف والتأمين والاسمنت والغذاء والكهرباء والتعدين والزراعة والعقار ومواد البناء. ليس صدفة لذلك إدراك الصندوق بأن إحدى أهم الخدمات التي يقدمها يمكن أن تكون استخدام ثقله في الشركات العشرين التي يمتلك فيها حصصاً متفاوتة لنشر ثقافة الحوكمة والشفافية في إلادارة، وعن هذا الطريق يتوقع الصندوق أن تكون له مساهمة مهمة في ترقية بيئة الشركات والأعمال في المملكة.
مؤسسات
الأكثر قراءة
-
المركزي الصيني: 98.5 مليار دولار تسهيلات إقراض متوسط الاجل
-
الخزانة الأميركية تعتزم بيع سندات طويلة الأجل بـ 183 مليار دولار الأسبوع المقبل
-
"جلف كابيتال" قوة استثمارية مؤثرة في الخليج وآسيا
-
ماذا تتضمن نشرة الإحصاءات الزراعية في السعودية لعام 2023؟
-
قطر: شراكة بين وزارة الاتصالات و"ستارتب جرايندر" لتعزيز الابتكار وريادة الأعمال