قمة المناخ في غلاسكو: نصف نجاح ونصف فشل
قمة المناخ في غلاسكو: نصف نجاح ونصف فشل
الهوة مستمرة بين الشعارات وبين الإنجازات على الأرض
- رشيد حسن
يمكن النظر إلى نتائج قمة غلاسكو البريطانية باعتبارها نصف نجاح كما يمكن النظر إليها باعتبارها نصف فشل ويمكن للمراقب أن يختار من أين يبدأ.
نصف النجاح في قمة غلاسكو هو أنها شكلت محطّة جديدة لدفع التعاون بين دول العالم في شأن التأثيرات المفترضة لتزايد تركّز الكربون في الغلاف الجوي للأرض على درجات حرارة الأرض، كما إن القمة اختتمت بجملة من المواقف والتعهدات التي تسعى لترجمة مبادئ "معاهدة باريس" خصوصاً لجهة الحدّ من قطع الغابات (عبر اتفاق غير ملزم ولم تنضم إليه إندونيسيا) والحدّ من انبعاثات الميثان (لم توافق عليه أستراليا) وتقييد التمويل للمشاريع الجديدة لإنتاج الفحم وغيرها من الإجراءات التي تستهدف، حسب داعميها، العمل لعدم تجاوز ارتفاع حرارة جو الأرض 1.5 درجة مئوية بالمقارنة مع المعدلات التاريخية المسجلة قبل التطوّر الصناعي للعالم.
قمة غلاسكو شهدت توقيع 100 دولة على تعهّد بخفض الانبعاثات بنسبة 30 في المئة بحلول العام 2030 وانفردت الهند بتعهّد بالوصول إلى "الحياد الكربوني" بحلول العام 2070 أي بعد 50 عاماً. وأعلنت 40 من الحكومات المشاركة نيتها زيادة الاستثمارات في التكنولوجيات النظيفة، وعزمها على وقف الاستثمارات الجديدة في مشاريع توليد الكهرباء باستخدام الفحم وذلك بحلول العام 2030 للاقتصادات المتقدمة وبحلول العام 2040 لبقية دول العالم.
أما نصف الفشل فهو ما اعتبره العديد من ممثلي لوبي المناخ "تمييع" العديد من المقررات والتعهدات بتأثير مصالح الدول نفسها أو بتأثير العديد من مجموعات الضغط التي تعارض الاتجاه الذي يدفع به هذا اللوبي لفرض قيود شديدة على قطاعات كثيرة تمثل الأعمدة الأهم للاقتصاد والعمالة في الدول الغربية وفي العديد من الدول النامية والأسواق الناشئة، ويمكن القول إن أكثر الدول التي تصدرت جلسات مؤتمر غلاسكو تمتلك مصالح كبيرة في القطاعات التي تتعرض لضغط أنصار البيئة ومعظم الاقتصادات المتقدمة التي تقدم التعهدات في شأن وقف تسخّن جو الأرض لها الكثير الذي تخسره من تطبيق الإجراءات المتشددة المطروحة على الطاولة.
حصل إذن تقدّم ملموس في موضوع المناخ في غلاسكو، لكنه ليس بالتقدّم الكافي الذي يتوقعه الخائفون على مصير الأرض، فما هو السبب أو الأسباب التي تفسر النتائج الضعيفة لقمة المناخ 2021؟
الجدل العلمي
أحد الأمور المهمة في ملف التغير المناخي هو أنه، وعلى الرغم من مظهر التوافق الواسع حول وجود احتباس حراري، فإنه لا يوجد إجماع حول درجة هذا الاحتباس والعوامل المسببة له في أوساط علماء الفيزياء الطبيعية والمناخ، وهناك عدد من كبار خبراء المناخ والفيزياء المناخية يجادلون بقوة في الفرضيات التي بنيت عليها اتفاقات المناخ مثل المعدل الفعلي لارتفاع حرارة الأرض والبرمجيات التي بُني عليها نظام قياس الاحتباس والآثار المناخية لثاني أوكسيد الكربون. ويتمتّع هؤلاء العلماء بنفوذ واسع لدى العديد من واضعي السياسات وغالباً ما يدلون بشهادتهم أمام لجان الكونغرس وغيرها أو يجدون طريقهم إلى رأس السلطة كما حصل في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، وهؤلاء الخبراء لا يشكّكون في واقعة الاحتباس الحراري بل يتهمون مجموعات الضغط المناخي بتضخيم الظاهرة لغايات سياسية أو اقتصادية. ويعترف هؤلاء العلماء بتزايد تركز ثاني أوكسيد الكربون في الجو الأرضي لكنهم يرفضون اعتبار غاز الكربون "ملوّثاً" بل يعتبرونه مفيداً للبشرية لأنه يزيد كثيراً المساحات الخضراء والطاقة الإنتاجية للغذاء من دون أن يتسبّب، حسب رأيهم، إلا بارتفاع قد لا يزيد على درجة واحدة مئوية خلال نصف القرن المقبل.
إن الانقسام حول أبعاد الاحتباس الحراري (خصوصاً في الولايات المتحدة الأميركية) تسبّب في عهد الرئيس ترامب بخروج الولايات المتحدة، وهي قائدة المجتمع الصناعي، من اتفاقية المناخ وفتح الباب مجدداً أمام الاستثمار في الفحم والنفط والغاز، وكان ذلك كافياً لزعزعة التوافق العالمي حول موضوع المناخ. وبينما يستفيد أنصار نظرية الاحتباس الحراري حالياً من وجود إدارة بايدن في السلطة، فإن احتمال عودة الرئيس ترامب نفسه أو سيطرة الجمهوريين مجدداً على الكونغرس قد يعيد خلط الأوراق كما إن عدداً لا بأس به من الحكومات قد يكون مفتوحاً على تبدل في السلطة وفي النظرة وفي السياسات.
غياب الإجماع
على الرغم من مظاهر التضامن التي تميّزت بها قمة المناخ في غلاسكو وسابقاتها من القمم، فإنه لا يوجد اتفاق دولي إلا على عدد من المبادئ البديهية مثل وقف القطع الجائر للغابات، أو وقف التلوّث في البحار، أو وقف انبعاثات الميثان، أو تطوير مساهمة الطاقات المتجددة بينما لا يوجد توافق حقيقي حول الملفات الأهم مثل النفط والغاز والفحم. فدول مثل روسيا أو الصين أو الهند أو إندونيسيا (في ما خصّ إدارة الغابات) أو دول الخليج ومنتجي النفط (مثل النرويج) لها وجهات نظرها المختلفة ولا تنظر بإيجابية إلى لوبي المناخ الذي وصل إلى حدّ الدعوة لإبقاء النفط والغاز تحت الأرض. وعلى سبيل المثال، فإن بريطانيا التي تعتبر دولة نفطية والتي ترأست قمة المناخ في غلاسكو، تستعد لإطلاق نحو 40 مشروعاً في قطاع الوقود الأحفوري، كما إن الصين مثلاً التي تعتبر أكبر مصدر لانبعاثات غازات الاحتباس الحراري مع نحو 30 في المئة من مجمل تلك الانبعاثات لها سياساتها غير المنسجمة مع التوافق الدولي فهي مثلاً مستمرة في زيادة إنتاجها من الفحم ومن النفط والغاز، كذلك فإن روسيا تعتبر من أكبر منتجي النفط والغاز (والفحم) في العالم، علماً أن هذه الدول (مع الهند ودول آسيوية عدة) تعتبر في الوقت نفسه من بين أكبر المستهلكين للنفط والغاز والفحم، ومن الطبيعي ألا يمكن للوبي المناخ التأثير بصورة فعلية على تلك الدول التي ما زالت تقدّم مصلحتها في التنمية الاقتصادية على طروحات لوبي المناخ وحلفائها في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، وهذا هو أحد الأسباب المهمة لتوالي القمم المناخية من دون تسجيل خروقات حقيقية في الملفات الأساسية حتى الآن.
حقائق الاقتصاد
قدّم العام الحالي الذي شهد ارتفاعاً قياسياً في أسعار الغاز وفي أسعار مصادر وقود تقليدية أخرى مثل النفط والفحم مثالاً قوياً على محاذير الاندفاع في سياسات تقييد المصادر التقليدية للوقود بتأثير المزايدات السياسية ومجموعات الضغط وقبل تحقيق تقدم مواز وفعلي في توفير البدائل من مصادر الطاقة المتجددة. نتيجة لهذا الخلل، رأينا داعية لتقييد الوقود الأحفوري مثل الرئيس الأميركي جو بايدن يضغط على "أوبك" لكي تزيد إنتاجها من النفط لعلّ ذلك يعينه على مواجهة المأزق التي خلقته سياسات مناهضة الوقود الأحفوري وتقييد الاستثمارات الجديدة في مجالات النفط وخطوط النقل والتمويل وغيرها.
ومما لا شك فيه أن تلك الأزمة لعبت دوراً في تخفيف اندفاع قمة غلاسكو وساعدت التيار "العقلاني" ولوبي النفط والغاز والشركات الكبرى العاملة في قطاعات الطاقة أو الصناعة على تدوير الكثير من الزوايا الحادة في مشروع الإعلان الذي تبنّته القمة وجاء "مخيّباً" للكثير من أنصار الإجراءات الراديكالية في مكافحة الاحتباس الحراري.
معضلة الدول النامية
تمثل الدول النامية (مع الصين) نحو 80 في المئة من سكان العالم وهي تمثل (دون احتساب الصين) نحو ثلث انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون وغازات الاحتباس الحراري الأخرى، وبالطبع وناهيك عن غياب الإجماع الفعلي حول أهداف تصحيح الاختلالات المناخية، فإن هناك 53 دولة نامية ذات مداخيل متدنية أو متوسطة، ولا يمكن لأي جهود دولية لوضع حدّ لارتفاع حرارة الأرض أن تحقق نتائج من دون تعاون هذه الشريحة المهمة وانضوائها بقوة ضمن الجهد الدولي العام، لكن انضمام هذه الدول يحتاج كما تدرك الدول الغنية إلى توفير المعونات الكافية لمساعدتها على تطوير قطاع الطاقة البديلة وإحداث التغييرات اللازمة في اقتصادها لتخفيف الاعتماد على مصادر الطاقة التقليدية، إلا أن التجربة تظهر أن الدول الغنية فشلت دوماً، ومنذ "اتفاقية باريس"، في الوفاء بالالتزامات التي تقطعها على نفسها تجاه الدول النامية، ففي قمة المناخ الذي عقدت في كوبنهاغن في العام 2009، تعهدت الدول الغنية بتوفير 100 مليار دولار من التمويلات سنوياً للدول ذات الدخل المنخفض أو المتوسط وذلك لمساعدتها على الانضمام إلى الحملة الدولية لخفض انبعاثات غازات التسخن الحراري والاستثمار في مصادر الطاقة البديلة والنظيفة.
إلا أن تقريراً للأمم المتحدة صدر في العام الماضي خلص إلى أن هذا الرقم لا يزال بعيداً عن الواقع، وأن 70 في المئة من التمويلات التي التُزم بها منحت أو ستمنح على شكل قروض بينما كان المتوقع أن يكون معظمها على شكل مساعدات مباشرة، وقد أعادت قمة غلاسكو الكرّة فأعلنت الدول الغنية ونحو 450 من المؤسسات المالية والمصرفية تعهداً بتوفير نحو 130 تريليون دولار من الأصول التي تقع تحت إدارتها لمستثمرين يتعهدون بالوصول إلى صفر انبعاثات بحلول العام 2050، لكن كما أثبتت التجربة، فإن جميع التعهدات الفضفاضة والطويلة الأمد غالباً تبقى شعارات بسبب عدم ربطها ببرامج إجرائية توضح كيف سيتم تطبيقها وقد حدث ذلك في السابق وليس ما يمنع حصوله مجدداً.
رحلة شاقة
على سبيل الخلاصة، يمكن القول إن المشكلة الأساسية والدائمة لسياسات المناخ والاتفاقات الدولية الرامية درء مخاطر الاحتباس الحراري تبقى البون الشاسع بين الطموحات وبين الوسائل، بين الأهداف المعلنة وبين الخطط الفعلية التي تضمن تحقيق تلك الأهداف. لكن هذه الهوة المستمرة لم تحصل سهواً، إذ إنها "الباب الخلفي" الذي يتم توفيره على الدوام للدول التي لا تستطيع أو لا تنوي تنفيذ التزاماتها، فالمطلوب حتى الآن في الجهد المناخي هو إظهار جبهة متضامنة بين الدول وتحقيق خطوات ولو متواضعة تضاف إلى ما تمّ تحقيقه في السابق. لكن إذا اعتبرنا التوقعات الكارثية للتغير المناخي صحيحة، فإن أنصاف الحلول والتردد المستمر في تقديم مساعدات كافية للدول النامية وتمسك الدول المتقدمة والصناعية بأهداف النمو والحاجة إلى مصادر النفط التقليدية، كل ذلك يعني أن الهدف المعلن وهو الحد من ارتفاع حرارة الأرض أكثر من 1.5 درجة مئوية لن يمكن تحقيقه ضمن الفرصة الزمنية المتاحة للمجتمع البشري وأن احتمال ارتفاع حرارة الأرض إلى أعلى من ذلك المعدل قد لا يمكن تجنبه، وهذا يعني بالطبع أن الهدف الأساسي الذي تتحرك كل جهود فريق الاحتباس الحراري لأجل تحقيقه قد يبدو بعيد المنال.
مجلة "المحاورة" The Conversation لخصت الحصيلة التي توصلت إليها قمة المناخ في غلاسكو بشأن الاحتباس الحراري بالجملة المعبرة التالية:
"في أحسن الحالات، فإنه يمكننا القول بأن هدف وقف التسخن الجوي عند حدّ لا يزيد على 1.5 درجة مئوية أصبح على التنفس الاصطناعي، أي أن المريض لا يزال ينبض لكنه ميت سريرياً".
الأكثر قراءة
-
الملتقى الاقتصادي التركي - العربي الخامس عشر: لمزيد من التعاون المشترك بين تركيا والبلدان العربية
-
المركزي الصيني: 98.5 مليار دولار تسهيلات إقراض متوسط الاجل
-
الخزانة الأميركية تعتزم بيع سندات طويلة الأجل بـ 183 مليار دولار الأسبوع المقبل
-
"جلف كابيتال" قوة استثمارية مؤثرة في الخليج وآسيا
-
قطر: شراكة بين وزارة الاتصالات و"ستارتب جرايندر" لتعزيز الابتكار وريادة الأعمال