كيف تغيّر السعودية موازين السياحة في المنطقة؟
كيف تغيّر السعودية موازين السياحة في المنطقة؟
- رشيد حسن
تتسارع وتتكامل الخطط في المملكة العربية السعودية لاستكمال استراتيجية وطنية للسياحة تستهدف تحويل المملكة إلى السوق السياحي الأول في الخليج والشرق الاوسط.
ويرتبط النشاط غير العادي لدى القيادة السعودية، ولاسيما وزارة السياحة، بالتغييرات الجذرية التي أطلقتها "رؤية المملكة 2030"، بهدف تنويع الاقتصاد وتخفيف الاعتماد على النفط، كما ترتبط بالوعي المتزايد لحجم الموارد السياحية المنوعة والغنية التي تتمتع بها المملكة والتي بدأ العمل على استثمارها وتفعيلها على نطاق غير مسبوق.
كنوز تاريخية وأجواء مفتوحة وطاقة فندقية ضخمة وشركة طيران جديدة
واستثمار كبير في المشاريع العملاقة والأحداث الثقافية والفنية والرياضية
وقد كانت السعودية على الدوام عملاقاً سياحياً نظراً إلى موقعها الجغرافي الوسطي وبنيتها التحتية المتطورة وأهميتها الدينية في العالم الإسلامي وثقلها السكاني وثرواتها وتنوّع مناخاتها وحضاراتها القديمة وآثارها وثقافاتها المحلية وقدرتها على الجمع بين السياحات التاريخية والثقافية والبحرية والصحراوية والدينية والمناخية، لكن هذا العملاق السياحي الذي لا تماثل أهميته التراثية والتاريخية، سوى بلدان قليلة في العالم، كان في حالة من السبات الطويل لأن المملكة بقيت لفترة طويلة من الزمن غير مهيّأة لفتح كنوزها السياحية أمام الطلب الهائل الكامن في الداخل وفي مصادر السياحة العالمية في أوروبا وأميركا وآسيا والتي تمثل النسبة الطاغية من الطلب على المقاصد السياحية العالمية.
المملكة التي تواجه تحدّي تخفيف الاعتماد على النفط وتعزيز دور القطاع الخاص واستيعاب التنامي السكاني وتشغيل الشباب وتحسين مستوى معيشة السكان ورفع جودة الحياة، توصلت في العام 2016 إلى قناعة حاسمة بحتميّة الاندماج الشامل بالاقتصاد العالمي وتنمية القطاعات غير النفطية، وعلى رأسها السياحة وذلك كجزء من "رؤية 2030" الشاملة التي رسمت صورة جديدة لمجتمع منفتح ومزدهر متنوع، ويحتضن مقومات وثروات سياحية تمكنه من المنافسة وتعظيم حصته في مختلف المجالات من السوق العالمية، بل تجعل منه أحد أبرز المقاصد السياحية والثقافية في العالم.
لكن السياحة السعودية كانت في انتظار التحول الشامل الاجتماعي والثقافي والاقتصادي الذي أطلقه ولي العهد الأمير محمد بن سلمان والذي أدرك أنه لا يمكن في عالم اليوم تحقيق تنمية اقتصادية وسياحية من دون انفتاح واسع النطاق على العالم، لأن السياحة ليست زيارات لمواقع أو استكشافاً لتاريخ أو جغرافيا بل هي تفاعل إنساني وثقافي وهي أيضاً، وفي جانب كبير منها، تجربة ترفيه ومغامرة.
العالم ينتظر السعودية
بدأت عملية تطوير المنظومة السياحية السعودية تتسارع في الفترة الاخيرة عبر سلسلة من الاجراءات والاستثمارات الهادفة الى بناء الصورة الجديدة للمملكة كمقصد سياحي وتسهيل التأشيرات وتطوير السلاسل اللوجيستية المرتبطة بالسياحة وتسريع الاستثمارات في المشاريع والمرافق السياحية.
وبالطبع، ما إن بدأت المملكة برفع العوائق التي كانت تؤخّر الطلب السياحي الهائل من السوق العالمية حتى بدأ تسابق السياح على المملكة من جميع أنحاء العالم، وهناك شريحة ضخمة من السياح تسنّى لها زيارة أسواق عديدة والتعرّف على مجتمعات وتجارب سياحية مختلفة لكن هذه الفئات كانت تتوق إلى زيارة المملكة والتعرف على معالمها السياحية والتراثية عند أول فرصة سانحة. وهذا الواقع يمثّل طلباً ضخماً مكبوتاً على السياحة السعودية يتوقع أن يترجم بتنامي سريع في حجم السياحة العالمية التي تدخل مختلف مناطق المملكة وتستجيب لمختلف الأحداث والمواسم والمناسبات التي تنظمها الهيئات والجهات المعنية. ويعتبر تطوير السياحة السعودية محوراً أساسياً من محاور "رؤية المملكة 2030" وتنويع مصادر الاقتصاد السعودي غير النفطية، إلا أن هذه العملية تستهدف أيضاً توفير جزءاً مهماً من المبالغ الضخمة التي ينفقها السائحون السعوديون في الخارج والتي بلغت نحو 22 مليار دولار في العام 2019.
سياسة الأبواب المفتوحة
وقدم الشهر الماضي صورة جليّة عن حجم الطلب الخارجي الاحتمالي على السياحة في المملكة عندما أدّى قرار من مجلس الوزراء السعودي بتوسيع غير مسبوق لفئات السياح الأجانب التي يمكنهم زيارة المملكة بموجب تأشيرة إلكترونية إلى إثارة حمى حقيقية بين مئات الألوف من السياح الذين تهافتوا على موقع المملكة السياحي على الإنترنت، الأمر الذي أدى إلى اختناقات عطلت الموقع لفترة معينة. وكانت السلطات السياحية فتحت المملكة أمام الزائرين الأجانب على نطاق واسع أواخر العام 2019 إلا أن جائحة كورونا وما أدت إليه من إغلاق لحركة السفر والمؤسسات السياحية أدّتا إلى عدم استفادة السياحة السعودية من ثمار القرارات الانفتاحية التي بدأت تتخذها المملكة في مجال السياحة خلال السنوات القليلة الماضية، إلا أن المملكة سعت إلى محاولة تعويض الهبوط الكبير في السياحة القادمة من الخارج (بما في ذلك السياحة الدينية) عبر تطبيق برنامج وطني شامل لترويج السياحة الداخلية وهو ما آتي ثماره بالفعل كما يتضح من التزايد الكبير العام 2021 في عدد الرحلات داخل المملكة في مقابل تراجع عدد السياح من الخارج.
وفي ضوء الإحصاءات السياحية لهذا العام وللأشهر الأربعة الأخيرة منه، توقع وزير السياحة السعودي أحمد الخطيب أن يرتفع عدد السياح الأجانب الذين سيزورون السعودية في العام 2022 إلى نحو 12 مليون سائح مقابل 4 ملايين سائح في العام 2021.
100 مليون زائر
وتتوقع المصادر الحكومية السعودية أن يبلغ حجم السياحة إلى المملكة ما بين 90 و 100 مليون زائر في العام 2030 وهذا الرقم شرحه وزير السياحة السعودي في مقابلة حديثة مع قناة "العربية"، مشيراً إلى أن 30 مليون سائح من أصل الرقم الإجمالي سيكونون سيّاحاً أجانب. ومن المرجح أن يؤدّي القرار السعودي الأخير بفتح السياحة في المملكة أمام الحاملين لتأشيرات إقامة في دول الخليج أو تأشيرة "شينغن" والتأشيرات البريطانية إلى زيادة ملايين عدة دفعة واحدة في حجم الطلب السياحي الاحتمالي على المملكة، وبالنظر لقرب المسافة فإن من المتوقع أن يسعى عدد كبير من المقيمين الأجانب في دول الخليج إلى تمضية عطلهم في المملكة السعودية.
وأدت توقعات النمو المتفائلة للسياحة السعودية منذ سنوات إلى إقبال كبير على إنشاء الفنادق ومرافق الترفيه والخدمة السياحية، وتشير دراسة لمؤسسة توب أوتيل المتخصصة إلى أن حركة بناء الفنادق ستتضاعف ثلاث مرات في العام المقبل وأن نحو 50 في المئة من الفنادق قيد الإنشاء سيتم تسليمها خلال العام 2023 مع توقع خلق عرض إضافي يزيد على 63 ألف غرفة في مقابل نحو 9000 غرفة يتوقع إنجازها هذا العام.
طيران سعودي دولي
هذه الآمال الواعدة بادرت الحكومة السعودية إلى ملاقاتها عبر التعجيل في تنفيذ أحد أكبر مشاريع تطوير السياحة وخلق شركة طيران كبرى (تحت تسمية "ميرا") لتكون بمثابة الناقل الجوي الثاني في المملكة ولتساهم استراتيجية عملها وشبكة خطوطها في خدمة النمو المتوقع في السياحة الخارجية إلى المملكة. ويتوقع خبراء النقل الجوي أن تحتاج شركة الطيران الجديدة لبناء شبكة تتضمن أكثر من 150 وجهة حول العالم من أوروبا وأميركا الشمالية وأميركا الجنوبية إلى أفريقيا وآسيا، مما سيتطلب استثمارات قد تصل إلى 30 مليار دولار.
وعلى سبيل استكمال البنية السياحية، قرر مجلس الوزراء السعودي قبل أيام التصديق على قانون جديد للسياحة السعودية يستهدف تشجيع الاستثمار في الصناعة السياحية من خلال خلق شباك واحد للتعامل مع المستثمرين الوطنيين والاجانب في القطاع وتبسيط المعاملات وإصدار التراخيص بالمؤسسات السياحية.
اقتصاد السياحة: حصان التنويع الرابح
منظومة سياحية متكاملة
ويدخل إصدار قانون جديد للسياحة ضمن مجموعة من المبادرات التي نصت عليها الاستراتيجية الوطنية للسياحة وفي رأسها استكمال المنظومة القانونية والمؤسساتية المكلفة بتطوير الصناعة السياحية والترويج للسياحة السعودية، وحسب وزارة السياحة السعودية فإن منظومة تنمية الصناعة السياحية تضم:
- وزارة السياحة كقيادة حكومية لكل هذه المجهودات
- الهيئة الوطنية للتنمية السياحية وهذه تتولى بصورة خاصة كل أعمال الترويج للسوق السياحية في المملكة وفي الخارج بما في ذلك تخطيط المواسم والمبادرات وإقامة المهرجانات والمعارض وغيرها من النشاطات.
- صندوق التنمية السياحية السعودي والذي يختص بتوفير التمويل لمشاريع السياحة والفنادق والنقل والخدمات السياحية، كما تتضمن تشجيع الاستثمارات الخاصة في قطاعي الترفيه والسياحة والقطاعات المكملة للسياحة مثل المطاعم وشركات النقل ومنظمي الرحلات، وأطلق الصندوق "بوابة الاستثمار السياحي" لتكون بمثابة المدخل الرقمي للمستثمرين للوصول المباشر إلى الحلول التمويلية التي يقدمها الصندوق.
- مجلس التنمية السياحية الذي يعمل تحت مظلة وزارة السياحة ويحدد أهدافه بـ "مواءمة الأهداف الوطنية والاستراتيجية وتنسيق الجهود لتنمية القطاع السياحي.
دور صندوق الاستثمارات العامة
إلا أنه من الضروري عند النظر في منظومة تطوير السياحة السعودية التوقف عند الدور الخاص والأساسي الذي يلعبه صندوق الاستثمارات العامة عبر عدد من الشركات الوطنية التي يملكها أو المشاريع الكبرى التي يتولى تمويل مراحلها الأولى والتي تعتبر جزءاً لا يتجزأ من الاستراتيجية السياحية للمملكة، ومن هذه المشاريع مثلاً مشروع "القِدِّية" الترفيهي بالقرب من مدينة الرياض ومشروع أمالا السياحي على شاطئ البحر الأحمر ومشروع تطوير الساحل الشمالي للبحر الأحمر وأخيراً مشروع "نيوم" العملاق وكل هذه المشاريع يتوقع أن تبدأ باستقبال الزائرين ما بين العامين 2025 و2030.
ويعتبر امتلاك السعودية لعدد كبير من المطارات الدولية أو المحلية مكوّناً أساسياً في البنية التحتية للصناعة السياحية الناشئة، وقد أضافت المملكة إلى ذلك مشروع إطلاق شركة طيران دولية بعدد كبير من الطائرات الحديثة وبطاقة استيعابية يمكنها احتواء التدفقات السياحية الخارجية المتوقعة إلى مختلف أنحاء المملكة.
كما تتضمن الخطة السعودية لتطوير السياحة الاستثمار في مشاريع ضخمة مثل مشاريع تطوير الرياض ومشروع أسواق جدة ومشروع برج جدة العقاري الذي يتوقع أن يصبح أعلى مبنى في العالم مع ارتفاع نحو كيلومتر واحد عن سطح الأرض.
كما تشتمل استراتيجية تطوير السياحة السعودية تنظيم الأحداث الفنية والرياضية مثل سباقات والمنافسات العالمية لرياضة الغولف وسباقات السيارات والحفلات والمهرجانات الفنية للنجوم العرب أو العالميين.
سباق مع الزمن
بدأت السعودية خطة استقطاب السياحة الدولية (غير الدينية) قبل سنوات فقط وهي لذلك تحتاج إلى بعض الوقت من أجل استكمال عناصر الخطة وخصوصاً على صعيد البنية التحتية السياحية والمرافق والخدمات ثم تلاقي كل هذه العناصر وتكاملها ضمن ما يتوقع أن يتحول إلى أحد أكثر الوجهات السياحية حيوية وتنوعاً وجاذبية في المنطقة وفي العالم. ومن الواضح أن السعودية تسعى بكل جهدها للتعويض عن الفترة السابقة من خلال ضخّ الاستثمارات وتوفير أقصى الدعم للمشاريع السياحية وكذلك من خلال تسريع أعمال التنفيذ في المشاريع الكبرى التي تمثل أهم المرتكزات المستقبلية للسياحة السعودية. ويمكن القول إن العام 2025 قد يكون عام دخول العديد من المشاريع السياحية التي يعمل عليها الآن إلى السوق وهو ما ينتظره المسؤولون كما ينتظره ألوف السياح التائقون إلى زيارة المملكة وعيش تجربتها السياحية والثقافية.
مؤسسات
الأكثر قراءة
-
المركزي الصيني: 98.5 مليار دولار تسهيلات إقراض متوسط الاجل
-
"جلف كابيتال" قوة استثمارية مؤثرة في الخليج وآسيا
-
ماذا تتضمن نشرة الإحصاءات الزراعية في السعودية لعام 2023؟
-
قطر: شراكة بين وزارة الاتصالات و"ستارتب جرايندر" لتعزيز الابتكار وريادة الأعمال
-
صندوق النقد الدولي يحذر من النمو المتسارع للديون العالمية: لإجراءات عاجلة تكبح نموها