من يقرّر خفض السعر الرسمي لليرة ؟
من يقرّر خفض السعر الرسمي لليرة ؟
لبنان يحفر نزولاً في القاع النقدي
- علي زين الدين
بين دفتيّ تصريح مقتضب وقرار مسائي، وعقب يومين فقط على إقرار قانون الموازنة العامة بما حفل به من التباسات بيانية وتبدّلات رقمية، تمّ دفع لبنان واقتصاده وناسه إلى قاع نقدي جديد حفرته وزارة المال من خارج خطة التعافي الحكومية التي يفترض بديهياً ووفق تشخيص "صندوق النقد الدولي"، أن تشكل الرافعة الوحيدة لمنظومة الاجراءات والقوانين الكفيلة بكبح سرعة الانحدار المتعمد على كل الأصعدة عشية اكتمال ثلاث سنوات من تفجر الاحتجاجات الشعبية العارمة.
وبدا تسلسل الحكاية مشوّقاً في صدماته المتتالية وفي التباسات خلاصاته التي تحوّلت بدورها شبكة الغاز عصيّة على الفكفكة. فقد اختار وزير المال يوسف الخليل وكالة "رويترز" لتفجير قنبلته النقدية برفع سعر الدولار الرسمي 10 أضعاف من 1520 ليرة إلى 15 الف ليرة، وأعقبها ببيان رسمي يلمّح إلى شراكة مضمرة لحاكمية مصرف لبنان في الاعداد وفي تحديد السعر والتوقيت، لتعود الوزارة عينها، وبعد ساعتين فقط، إلى صدم الأوساط كافة والاسواق بتصويب القرار وربط العمل به بشرط إقرار خطة التعافي التي اوصلتها الحكومة "بريدياً" إلى مجلس النواب، ومن دون التقدم رسمياً بكتاب طرحها على جدول الأعمال.
في الوقائع، بلغ هامش الفوارق الصريحة بين البيانين المتعاقبين لوزارة المال حدود التناقض، ولا سيما لجهة تحديد الأول من الشهر المقبل (تشرين الثاني/نوفمبر) موعداً لسريان مفعول القرار، ومن ثم إعادة ربط الاجراء كاملاً بخطة تائهة منذ سنتين ونيّف في عهدة حكومتي الرئيسين حسان دياب ونجيب ميقاتي. وزاد في الغموض اللاحق اعتصام المعنيين في السلطتين التنفيذية والنقدية بصمت مريب هو أشبه بالتنصل من القرار وتداعياته في ظلّ الاختلالات الحادة التي بلغتها الاوضاع المعيشية والمعارك الخاسرة على كل الجبهات التي يخوضها جموع المواطنين مع تخلي الدولة عن كامل مسؤولياتها.
ففي البيان التصويبي، ورد "إن ما يتم تداوله عبر وسائل التواصل الاجتماعي وبعض الوسائل الإعلامية والمواقع الإلكترونية في شأن تغيير في سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي، سيتم على خطوتين الأولى على صعيد الدولار الجمركي والثانية على صعيد سعر الصرف الرسمي المراد إعتماده بالتنسيق مع المصرف المركزي والذي يعتبر خطوة أساسية بإتجاه توحيد سعر الصرف. وهذا مشروط بإقرار خطة التعافي التي يعمل عليها والتي من شأنها أن تواكب تلك الخطوة".
ومن دون شطارة، يمكن اكتشاف "الحرج الشديد" الذي فرض من "جهة ما" رد الوزارة على نفسها، وبما يمحو ما أوردته في بيانها الاول، وفي نصه "بعدما أقرّ مجلس النواب الموازنة العامة للعام 2022، حيث اعتُمد سعر صرف 15 الف ليرة مقابل كل دولار أميركي، وبعدما بات من الملحّ تصحيح تداعيات التدهور الحاد في سعر الصرف وتعدّديته على المالية العامة، وذلك تقليصاً للعجز وتأميناً للإستقرار المالي، وبما أن السير بخطّة التعافي المالي والنقدي والنهوض بالإقتصاد يتطلب توحيد سعر الصرف، لذا، أصبح وقف العمل بسعر صرف الدولار الأميركي على أساس 1507 ل.ل. إجراءً تصحيحياً لا بدّ منه.
وعليه، وكخطوة أولى بإتجاه توحيد سعر الصرف تدريجياً، تمّ الإتّفاق بين وزارة المالية والمصرف المركزي على إعتماد سعر 15 الف ليرة مقابل كل دولار اميركي، عملاً بأحكام المادتين و75 و83 من قانون النقد والتسليف، كما وسائر النصوص التنظيمية والتطبيقية الصادرة عن مصرف لبنان، على أن تعمل السلطات المالية والنقدية على إحتواء أي تداعيات على الأوضاع الاجتماعية للمواطن اللبناني (على سبيل المثال القروض السكنية) وكذلك على مساعدة القطاع الخاص على الإنتقال المنظّم الى سعر الصرف الجديد المعتمد".
ما يمكن استخلاصه تلقائياً، أن وزارة المال بلغت حدود الحرج الشديد في الإقدام على اتخاذ قرار بهذا الحجم وحمل ثقله الكبير منفردة، ثم وقعت في شرك الخروج منه ومن تداعياته بأقل الخسائر الممكنة. في حين يتوالى التداول بأن تغيير وزير المال شخصياً سيكون في صلب التعديلات المرتقبة لإعادة تعويم حكومة الرئيس نجيب ميقاتي بالاتفاق مع رئيس الجمهورية ميشال عون، ومحضها ثقة جديدة من قبل مجلس النواب لتصبح بصلاحيات مكتملة قبيل بلوغ محطة انتهاء الولاية الرئاسية آخر الشهر المقبل.
لكن، ووفق مقولة بأن "ما كتب قد كتب" السارية في لبنان، أصبح الاقتصاد والاسواق والناس في قلب المتاهة. ورغم وضوح التصويب لجهة انعدام أي فاعلية لقرار تحديد السعر الرسمي "المستحدث" لليرة إزاء الدولار من خلال ربطه بخطة لم تستقر على صيغة نهائية ومكتملة المواصفات على مدار ثلاث سنوات متتالية، سيستمر دفق الاسئلة ذات الصلة بمنظومات التسعير في كل المجالات بدءاً من رغيف الخبز وليس انتهاء بمصير المدخرات المحاصرة في البنوك، وربما الى حين الانتهاء من التعديل الوزاري وتجديد انطلاقة الحكومة.
وبالفعل، فقد استعصى على الكثير من اللبنانيين، بمن فيهم قيادات مالية ومصرفية، التفسير الدقيق لسريان السعر الرسمي الجديد لليرة ازاء الدولار الاميركي بدءاً من اول الشهر المقبل وحدود شموله لبنود الموازنة العامة ومندرجات المنظومة الاستهلاكية والمصرفية. ولذا، بدت المقاربات متباينة الى حدود التناقض، كما سلكت التقديرات الخاصة بالنتائج والانعكاسات في الاتجاه الملتبس عينه.
وفيما امتنع البنك المركزي عن المشاركة في الجدليات اللاحقة، متجاوزاً واقع مرجعيته القانونية وشراكته المنوه عنها في النص الأول لبيان وزارة المال، فالمؤكد أن ما حصل سينتج تحولات لاحقة ستطرأ على الهيكل النقدي والقائم حالياً فوق تشوهات صريحة ينتجها تعدد أسعار الصرف، في حين أن السعر الواقعي الوحيد تقرره الأسواق الموازية وغير النظامية عبر تطبيقات تغزو معظم هواتف معظم اللبنانيين.
واذ تفرض الهوامش الكبيرة في الاسعار المتنوعة للعملة الوطنية اعادة هيكلة السعر الرسمي المعتمد مع ضرورة مراعاة العجوزات المحققة التي ضربت المداخيل جراء تدهور الليرة بنسبة قاربت 95 في المئة والارتفاعات الحادة والمطردة للتضخم التي تعدت نسبها التراكمية 1200 في المئة، فإن قراراً بهذا الحجم يتطلب تشاركية صريحة بين السلطات التنفيذية والنقدية للإعداد والصياغة، ومن ثم مصادقة من قبل السلطة التشريعية.
ففي الخلفية القانونية للقرار وخصوصياته، كان مجلس شورى الدولة قد أصدر قراراً ربط فيه تعديل سعر الصرف بقانون صادر عن مجلس النواب. بينما خلا قانون الموازنة الذي اقرّه البرلمان للتو من تأمين هذه المظلة التشريعية. وهذا ما اكدته تغريدة لافتة في مضمونها لرئيس لجنة المال والموازنة النائب ابراهيم كنعان ورد فيها ان "إعلان وزير المال عن توحيد سعر الصرف في الموازنة غير صحيح. فالموازنة لم تعتمد سعر صرف 15 ألفاً، بل الحكومة اعتمدت الدولار الجمركي على 15 ألفاً بعد ضياع استمر 6 أشهر. للأسف، تتابع الحكومة تخبطها المخجل وتلقي بعجزها على جيوب الناس وهو ما حذرنا منه وواجهناه منذ اللحظة الأولى وسنكمل".
وبالفعل، فإن ما ورد في فذلكة الموازنة تضمن توجهات تخص سعر الصرف من دون تحديد للسعر وللمهل الزمنية. فالمطالعة بيّنت "أن توحيد سعر الصرف بات حاجة ملحة وهو أحد المداخل الاساسية لأي خطة تعافي إقتصادي مع ما يستتبعه من استعادة للثقة في النظام المالي والمصرفي لتأمين الاستقرار الاجتماعي والحد من تفاقم التضخم وإنعكاساته". فيما نصت فقرة ثانية على أن "المحافظة على إيرادات الخزينة من التهرّب والتحايل من جراء تعدد اسعار الصرف "حق" لا بدّ من السعي وراءه كالسير في اعتماد سعر واقعي للدولار كون الايرادات المحققة من فرق سعرالصرف لا تصل بمعظمها الى المستهلك. كذلك إحتواء أثر تقلب سعر الصرف على النفقات المقدرة والواردات المرتقبة، وخصوصاً فيما يسببه من تفاقم في عجز الميزانية، والذي يخفف حكماً من الضغوطات التمويلية الاضافية ويقلل من المخاطر المالية. وذلك من خلال إعتماد سعر صرف منطقي في تقدير واردات الخزينة والتي هي المصدر الوحيد حالياً للتمويل في غياب المصادر الاخرى".
كذلك، فان ما يرد في مشروع خطة التعافي الحكومية بشأن سعر الصرف يتسم بالوصف ولا يقل غموضاً عن الالتباسات التي رافقت بياني وزارة المال. فمع اقرارها بأن نظام الصرف الحالي لم يعد مستداماً، تشير الى اجراء غير واضح لتوحيد سعر الصرف للمعاملات المصرّح بها بعد تحويل منصة "صيرفة" الى منصة تداول ملائمة تجري من خلالها جميع المعاملات المصرّح بها ويحدد سعر الصرف فيها على أساس يومي. وبالحاجة الى انشاء هيكل نقدي جديد لاستعادة الثقة وكبح جماح التضخم وانخفاض سعر الصرف، ووضع آلية شفافة وتعتمد على السوق في تحديد اسعار الفائدة والصرف.
وبالتوازي، عجزالضجيج الفوري الذي أعقب القرار الاساسي، وما أعقبه من تحليلات ومقاربات من خبراء ومراقبين عن توفير أجوبة شافية في شأن مفاعيل القرارعلى مجمل العمليات المالية ذات الصلة بموارد الخزينة العامة لجهة رفع الضرائب والرسوم كافة بالنسب ذاتها لسعر الليرة الجديد، ومن ثم على المعاملات المصرفية في بندي المدخرات والقروض، بدا الاستعصاء أشدّ وقعاً في تفسير التوضيح الملتبس والذي القى اللوم على الاعلام ووسائله المتنوعة في تداول مضمون القرار ومضاعفاته السوقية.
وبذلك، فإن تحديد الموعد "المعلّق" لسريان قرار خفض السعر الرسمي إلى 15 الف ليرة لكل دولار بعد مهلة شهر، يمكن فهم استهدافه بتمكين مؤسسات الدولة والقطاع الخاص من التعامل بكفاءة مع مقتضياته واستثناءته التي ستشمل خصوصاً القروض السكنية السابقة المحررة بالدولار والمقدرة حالياً بنحو 400 مليون دولار، بحيث لا تطالها الفروقات السعرية الجديدة، ووفقاً لما هو مرتقب من تعاميم تنظيمية ستصدر عن مصرف لبنان.
وتؤكد المصادر المالية والمصرفية أن ربط القرار بشرط إقرار خطة التعافي لن يحول دون سريان مفاعيله الواقعية، إنما ينبغي التريث في تقدير الانعكاسات على جداول الضرائب والرسوم وفقاً للقرارات التنظيمية التي ستصدرها وزارة المال. فيما سيختص البنك المركزي عبر تعاميم تطبيقية تحديد مهل متدرجة ايضاً لاعادة هيكلة ميزانيات البنوك، والاهم بالنسبة لأصحاب الحقوق تحديد البدلات الجديدة للسحوبات من مدخرات البنوك، والتي تعتمد حالياً سعر 8 آلاف ليرة لكل دولار، او سعر 12 الف ليرة لحصص المستفيدين "اختيارياً" من التعميم الرقم 158 الذي يمكنهم من سحب 800 دولار شهرياً موزعة مناصفة بين 400 دولار نقدي و400 يتم تصريفها بالليرة.
الأكثر قراءة
-
"جلف كابيتال" قوة استثمارية مؤثرة في الخليج وآسيا
-
ماذا تتضمن نشرة الإحصاءات الزراعية في السعودية لعام 2023؟
-
قطر: شراكة بين وزارة الاتصالات و"ستارتب جرايندر" لتعزيز الابتكار وريادة الأعمال
-
صندوق النقد الدولي يحذر من النمو المتسارع للديون العالمية: لإجراءات عاجلة تكبح نموها
-
"بيورهيلث القابضة" الإماراتية تسجل صافي أرباح بقيمة 1.4 مليار درهم في 9 أشهر