السعودية توظِّف مناعتها للأزمات لاحتواء تحديي كورونا والنفط

  • 2020-05-06
  • 16:05

السعودية توظِّف مناعتها للأزمات لاحتواء تحديي كورونا والنفط

إجراءات تقشف "مؤلمة" لظروف "غير مسبوقة"

  • رشيد حسن

العلاقة قديمة بين المملكة العربية السعودية والأنواء الاقتصادية والمالية الدولية، فالاقتصاد السعودي بسبب اعتماده الكبير على النفط ومشتقاته تأثر دائماً بالتقلبات والأزمات التي تصيب الأسواق، لذلك تركّز الفكر الاقتصادي والمالي السعودي عبر العقود على بلورة الخبرات والآليات الهادفة إلى إدارة هذه العلاقة الحرجة، ومن أهم تلك الآليات التي تمّ اللجوء إليها الميزانية والدين العام والاحتياط الخارجي ثم الدور المحوري المستجد لصندوق الاستثمارات العامة. هذه المحركات الأربعة للاقتصاد السعودي تعمل الآن بالتناغم والتكامل على إدارة دورات الصعود والهبوط في أسعار النفط بصورة خاصة. وعلى الرغم من نمو دور الاقتصاد غير النفطي والقطاعات الجديدة والخدمات، فإن النفط بقي العمود الفقري للإقتصاد السعودي، فهو لا يزال يساهم بنحو 87 في المئة من واردات الميزانية ونحو 90 في المئة من دخل الصادرات ونحو 42 في المئة من الناتج المحلي.

 

قيد النفط

هذا الاعتماد الكبير على مادة خام رئيسية من بلد ضخم يضم حالياً 34.8 مليون مواطن ومقيم كان الدافع الأهم خلف إطلاق رؤية المملكة 2030 التي استهدفت وضع الأسس لاقتصاد متوازن وأقل ارتهاناً بالنفط، وقد كانت المملكة قد تحولت قبل صدمة كورونا ثم صدمة أسواق النفط إلى ورشة لنهضة شاملة تصبّ كلها في تحقيق أهداف الرؤية وتحصين اقتصاد المملكة من الصدمات، لكن ومن دون سابق إنذار، تبدّلت معطيات القادة السعوديين الذين أصبح عليهم التحول من تخصيص الموارد المالية للخطط والمشاريع المستقبلية الطموحة إلى الاهتمام في آن واحد بالتحديات الفورية والمدى القصير في الوقت الذي يتم فيه تقييم ومعالجة انعكاسات الأزمة على أهداف المملكة المتوسطة والبعيدة. وباختصار، فقد فرضت الأزمة المزدوجة لوباء كورونا وانهيار أسعار النفط على القيادة السعودية خمس مهام جسيمة ومترابطة: 

خمس جبهات متزامنة

أولاً: الإدارة الكفوءة والفعالة للأزمة الصحية التي تسبب بها فيروس كورونا وبذل جهود شاملة لاحتواء الوباء ومنع انتشاره.

ثانياً: إدارة الآثار المباشرة للوباء على حركة الاقتصاد والقطاعات والمجتمع.

ثالثاً: إدارة الأزمة النفطية والتعامل بحكمة مع أسوأ هبوط للأسعار منذ مدة طويلة.

رابعاً: التعامل مع الوضع المالي غير المحسوب في ضوء التراجع الكبير في مداخيل النفط وتكلفة جائحة كورونا الاقتصادية والاجتماعية.

خامساً: تقييم الانعكاسات المتوقعة لاختلالات المدى القصير على أهداف المدى المتوسط والأبعد، وبالتالي إعادة ترتيب الأهداف ووضع تصورات معدّلة لبرامج التحول وخطط المشاريع.

حالة طوارئ مالية

بينما تنصرف السلطات الصحية بكفاءة عالية إلى التعامل مع أكبر أزمة صحية في تاريخ البلاد (وتحقق نجاحاً واضحاً في احتوائها) فإن اهتمام الحكومة انصبّ على معالجة أكبر تحد اقتصادي ومالي يواجه البلاد منذ انهيار أسعار النفط في العام 1986 إلى أقل من 10 دولارات (23 دولاراً أسعار اليوم) للبرميل، علماً أن التحدي الحالي لا يتوقف عند انهيار أسعار النفط بل عند انهيار الطلب العالمي وحاجة المملكة إلى تنفيذ تخفيضات كبيرة في الإنتاج من أجل دعم الأسعار وهو ما يزيد في الضغط على العائدات.

كانت السعودية أعلنت في كانون الأول/ ديسمبر الماضي عن ميزانية تزيد قليلاً عن التريليون ريال (نحو 272 مليار دولار) متوقعة تسجيل عجز أول في الميزانية بنحو 187 مليار ريال (نحو 50 مليار دولار) وتوقعت الميزانية يومها تحقيق نمو بنحو 2.3 في المئة خلال العام 2020.

والحال في مقابل توقعات ما قبل أزمة كورونا، فقد سجل الفصل الأول من 2020 عجزاً بقيمة 34.1 مليار ريال سعودي (نحو 9.07 مليارات دولار) مع انخفاض الواردات بنحو 22 في المئة عما كانت عليه في الفترة نفسها من العام السابق، وفي الوقت نفسه، انخفض عائد المملكة من صادرات النفط خلال الفصل الأول من 2020 بنسبة 24 في المئة حسب بيانات وزارة المالية السعودية.

لكن أرقام الفصل الأول من السنة لا تحمل الصورة الحقيقية عن آثار أزمة الكورونا على الاقتصاد وفقاً لما نبّه إليه وزير المالية السعودي محمد الجدعان، فهذه الآثار ستبدأ بالظهور بصورتها الحقيقية في الأرباع الثاني والثالث والرابع من هذا العام، وربما استناداً إلى هذه المعطيات والتزام المملكة خفض إنتاجها من النفط وفق اتفاق اوبك+ الاخير، توقعت وكالة "موديز" للتصنيف الائتماني انخفاض إيرادات الحكومة بنحو 33 في المئة في العام 2020 ونحو 25 في المئة في العام 2021 بالنسبة إلى العام 2019، كما إن تباطؤ نمو الناتج المحلي الإجمالي الحاد سيضغط أيضاً على إيرادات القطاعات غير النفطية وإن كان تأثير هذا الانخفاض يبقى محدوداً بسبب المساهمة المحدودة لهذا الباب في واردات الميزانية.

الجدعان: إجراءات "مؤلمة"

وأرسلت المملكة في مطلع العام إشارة أولى عن اتجاهها لتطبيق سياسة تقشف شاملة في الإنفاق عندما أعلنت أنها قررت خفض موازنة 2020 بنحو 5 في المئة لكن هذه المبادرة بدت غير كافية مع اتضاح حجم الصدمة الاقتصادية المزدوجة لوباء كورونا ولانهيار أسعار النفط وهذا ما جعل كل أجهزة الحكومة تتحول بكل قوة إلى تطبيق سياسة تقشف أكثر جذرية. هكذا وبعد سلسلة من الخطوات استهدفت خفض النفقات المعتمدة في ميزانية العام 2020 ظهر وزير المالية محمد الجدعان على شاشة قناة "العربية" خصيصاً بهدف تحضير الرأي العام السعودي والدولي لخطوات "غير مسبوقة" و"مؤلمة" على حدّ تعبيره.

الجدعان أراد من الإطلالة التلفزيونية أن ينبّه الرأي العام السعودي إلى أن ما تواجهه المملكة ليس أزمة عادية بل أزمة غير مسبوقة ربما منذ الحرب العالمية الثانية سواء على النطاق السعودي أم العالمي، وعلى هذه التحديات غير المسبوقة لا بدّ من حالة طوارئ تتسم بإجراءات وخطوات تقشف غير مسبوقة وهي ستنحصر في أمرين بالدرجة الأولى:

  1. الاستدانة وهي من أجل ذلك مهّدت برفع سقف الحد الأقصى للمديونية العامة من 30 إلى 50 في المئة من اجمالي الناتج المحلي وهو ما يعني إمكان زيادة الدين العام من 100 مليار ريال إلى 220 مليار ريال.
  2. الخيار الثاني هو ببساطة البحث عن كل باب ممكن لخفض الإنفاق، فالخفض الذي حصل حتى الآن في نظر الحكومة ليس كافياً إذ سيكون على الحكومة النظر في كل بنود الإنفاق بنداً بنداً للنظر في أي منها يمكن تأجيله و"اللائحة طويلة" على حدّ قول وزير المالية السعودية.

بين الأمثلة على الطابع الجذري للإجراءات السعودية خفض الحكومة للإنفاق على أوجه الدعم السلعي المختلفة بنسبة 66 في المئة إلى 3.48 مليارات ريال خلال الربع الأول من 2020 في مقابل 10.3 مليارات ريال للفترة نفسها من العام الماضي. ومن الأمثلة أيضاً، تلميح الجدعان إلى إمكان "تمديد الخطوات التنفيذية" لعدد من البرامج والمشاريع التي تندرج ضمن رؤية المملكة 2030 لكن التي ستتأثر معطياتها بالمتغيرات الكبرى التي أفرزتها جائحة كورونا والكساد الاقتصادي العالمي الذي تسببت به، ومن المتوقع أن ترفع وزارة المالية توصياتها في خصوص الدفعة التالية من إجراءات التقشف إلى مجلس الوزراء في أقرب وقت وفق الجدعان.

التحدي الأهم الذي تواجهه السعودية وسط حالة الطوارئ التي تعيشها البلاد هي الغموض العالمي الذي لا يزال محيطاً بمستقبل الوباء ومتى سيكون ممكناً الإعلان عن هزيمته بشكل حاسم في العالم، إذ إن السيطرة على هذا الفيروس الشديد العدوى ستكون هي فعلاً الإشارة التي ينتظرها العالم لتنفس الصعداء والعودة تدريجياً إلى وتيرة النشاطات السابقة وتعافي الطلب في القطاعات الاقتصادية كافة، وما لم يحصل هذا الوضوح، فإن السعودية ستبقى مثل غيرها من المجتمعات في حالة من الحذر وسيكون عليها الاستعداد لفترة صمود قد تطول.

ثوابت وسط التغيير

في جميع الحالات، فإن السمة البارزة في التعامل السعودي مع أزمة كورونا وأسواق النفط هي الحرص على ألا يطال التقشف جوانب حيوية ومهمة من حياة المواطنين، ومن أجل ذلك شكلت المملكة مجموعة فرق لتلبية الحاجات الاقتصادية الصحية والمالية التي نجمت عن الأزمة وأطلقت بصورة خاصة حزماً تحفيزية بقيمة 120 مليار ريال أو نحو 8 في المئة من الناتج المحلي غير النفطي لتغطية هذه الجوانب. فالأولوية في كل الظروف تبقى لدعم القطاع الصحي وتلبية احتياجاته والحفاظ على وظائف السعوديين في القطاع الخاص والاستمرار في تأمين الخدمات الأساسية للمواطنين.

ويمكن القول إن قدر المملكة هو أن تواجه عوامل خارجية لها ثقلها وأثرها الفوري في اقتصادها وماليتها، لكن الدولة ومنذ الأيام الأولى لانطلاقة المملكة تمكنت من اجتياز التجربة بعد التجربة وراكمت خلال التقلبات والأزمات خبرات ثمينة ومناعة تبدو واضحة في السرعة والحزم التي يتم التعامل بهما مع تحد غير مسبوق للمملكة واقتصادها.