رياض سلامة ليس مسؤولاً عن فشل الأداء الحكومي
رياض سلامة ليس مسؤولاً عن فشل الأداء الحكومي
- بهيج أبو غانم
عندما تمّ تشكيل الحكومة برئاسة د. حسان دياب أوائل هذا العام، كان في حسابات من كانوا وراء تشكيلها أن تكون حكومة مهمتها معالجة الأزمة الاقتصادية والمالية والنقدية التي كانت بدأت تتفاقم بتداعياتها وتعقيداتها، وإنقاذ لبنان من الإفلاس والانهيار، إلا أن الوقائع تؤكد بما لا يقبل الشك، أن هذه الحكومة منذ تشكيلها أوائل العام حتى استقالتها بعيد كارثة مرفأ بيروت، لم تسجل ضمن "الـ 97 في المئة من إنجازاتها" قراراً واحداً يشكل حلاً جذرياً للأزمة القائمة انطلاقاً من البرنامج الإصلاحي الذي أصبحت بنوده معروفة من الجميع.
ومن مراجعة فترة الـ 11 شهراً الماضية، يلاحظ أن هذه الفترة التي كان يفترض أن تكون فترة الإصلاح الذي يؤدي إلى حوار بنّاء مع صندوق النقد الدولي، قد اتسمت بأمرين أو بمنهجين هما:
الأول: استمرار التجاذب بين أهل الحكم والقوى السياسية وتقاذف الاتهامات حيث يحاول كل طرف رمي الكرة في ملعب الآخر أو الآخرين.
والثاني: هو اللجوء إلى المعالجات المجتزأة والمؤقتة التي ثبت أنها كانت بمثابة "مسكنات" في ظل غياب المعالجة الجذرية، وكل ذلك جاء نتيجة قرارات "شعبوية" أو محاولات لشراء الوقت وتأجيل انفجار الأزمة.
في قفص الاتهام
ووسط أجواء التجاذب السياسي وتقاذف الاتهامات وتحميل المسؤوليات، وفي ظل تدابير "المسكنات" برزت ظاهرة على مراحل متتالية، تمثلت في توجيه سهام الاتهام إلى مصرف لبنان وتحميله لوحده مسؤولية الأزمة، وتولت هذه الحملة الاتهامية جوقة متكاملة ومتناغمة شاركت فيها أطراف عدة بدوافع مختلفة هي مزيج من كيديات ومصالح وإيديولوجيات واعتبارات سابقة ومستقبلية، وكل ذلك، في ظل تغافل أو حتى إنكار تام، لمسؤولية الأطراف الأخرى وفي طليعتها الحكومات المتعاقبة والقوى السياسية المتحكمة وصولاً إلى المصارف.
وتطورت هذه الحملة الاتهامية من حراك بعض الفئات المشاركة في الاحتجاجات الشعبية المعروفة بدوافعها وانتماءاتها وصولاً إلى قرار مجلس الوزراء خلال شهر آذار الماضي بإجراء التحقيق الجنائي في مصرف لبنان دون سواه، علماً أنه تم مؤخراً إلحاق الوزارات والمجالس والصناديق به من باب رفع الشبهة الشخصية عن دوافع القرار.
نسوق هذه الوقائع ليس دفاعاً عن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بل دفاعاً أولاً عن الموضوعية المتمثلة في مسؤوليات أطراف عدة عن الأزمة، ودفاعاً ثانياً عن مصرف لبنان كمؤسسة وكمرجعية هي مصدر ثقة بلبنان لدى المؤسسات الدولية، وهي خط الدفاع الأخير عما تبقّى من سمعة لبنان الدولية ولاسيما بعدما امتنع – وبإصرار من الحكومة – ومعارضة من حاكم مصرف لبنان عن تسديد سندات اليوروبوندز التي ثمة إجماع على أنه كان قراراً كارثياً.
الفساد الظاهر
انطلاقاً من ذلك، فإن حصر المسؤولية بمصرف لبنان يجافي حقائق عدة لا يتحمل مسؤوليتها البنك المركزي لا من قريب أو من بعيد. نستعرض بعض هذه الحقائق على سبيل المثال لا الحصر:
- مصرف لبنان ليس مسؤولاً عن أزمة الكهرباء، وما سببته من دين عام يتجاوز الـ 40 مليار دولار، وليس مسؤولاً عن هذا الملف المتعلق بالمحروقات من فيول ومازوت وبنزين والذي أثار العديد من الشكوك وكان موضع أكثر من إخبار (بكسر الألف) وهو ليس مسؤولاً عن عجز مؤسسة كهرباء لبنان في تنفيذ المشاريع الرامية إلى تعزيز القدرة الإنتاجية وتأهيل خطوط النقل وأعمال الصيانة والجباية.
- مصرف لبنان ليس مسؤولاً عن تردي أوضاع مرفأ بيروت والفساد المستشري فيه ووجود لجنة إدارة غير شرعية، وعن كل الأوضاع التي أدت إلى كارثة الانفجار الذي هدم أكثر من ربع العاصمة وعطل مرفقاً حيوياً بالنسبة إلى لبنان ماضياً وحاضراً ومستقبلاً وأودى بحياة أكثر من 200 شخص.
- مصرف لبنان ليس مسؤولاً عن آلاف الموظفين الذين تم حشرهم في الوزارات والمؤسسات عامي 2017 و2018 وذلك خلافاً للقانون.
- مصرف لبنان ليس مسؤولاً عن تداعيات قانون سلسلة الرتب والرواتب في القطاع العام الذي كان حذر من نتائجها وأوصى بتقسيطها على مدى 5 سنوات.
- مصرف لبنان ليس مسؤولاً عن رداءة أوضاع الصرف الصحي وعن عشرات محطات التكرير التي لا تعمل لهذا السبب أو ذاك.
- وهو ليس مسؤولاً عن الفضائح والسمسرات التي تفوح روائحها من فضائح النفايات التي أفسدت البر والبحر والجو إضافة إلى الاعتداءات على البيئة من خلال الكسارات والمقالع، ناهيك عن التعطل المتعمد لوسائل مكافحة الحرائق.
- وحتى لا تطول اللائحة فإن مصرف لبنان ليس مسؤولاً عن كل ظواهر الفشل التي طبعت أداء الحكومات المتعاقبة في مختلف القطاعات والمرافق، حيث بات من المستحيل الإشارة إلى مرفق واحد حقق نجاحاً وكان بإدارة حكومية.
وأخيراً وليس آخراً، مصرف لبنان ليس مسؤولاً عن فضائح المناقصات والعقود بالتراضي في مختلف الوزارات التي فاحت روائحها في وزارات الأشغال والطاقة والمياه والاتصالات والمطار وسواها.
وعليه، فإن فشل الأداء الحكومي ومسؤولية السلطتين التشريعية والتنفيذية عنه، هو خير دليل قاطع على وجود الفساد المستشري.
مصرف لبنان كسلطة نقدية
بالتأكيد، إن مصرف لبنان بريء من كل هذه الممارسات التي يمكن التعبير عنها بحجم ديون متراكمة اقتربت من الـ 100 مليار دولار، من دون أن يكون قد شهد لبنان ومنذ عقد ونيف تحقيق مشروع واحد من مشاريع البنية التحتية سواء في الكهرباء أو الطرقات أو المرفأ والمطار أو في مجالات الزراعة (تلوث الليطاني) والصرف الصحي والبيئة.
إذاً، مسؤولية مصرف لبنان تنحصر في كونه على رأس السلطة النقدية المسؤولة قانوناً عن الاستقرار النقدي وسلامة القطاع المصرفي. وفي هذا الإطار تجدر الإشارة إلى الآتي:
أولاً: إن مصرف لبنان اعتمد منذ بات في عهدة رياض سلامة سياسة تثبيت سعر الصرف وحماية الليرة من المضاربات الأمر الذي حقق نتائج جد إيجابية على صعيد الحفاظ على المدخرات والقدرة الشرائية، واستقطاب الاستثمارات والتدفقات المالية الخارجية. ومن الطبيعي أن تكون لهذه السياسة سلبيات معينة، إلا أنها سياسة قررتها سلطة سياسية وتعاقبت عليها حكومات عدة من دون أن تدخل عليها أي تعديل.
وطبعاً، ان الانتقادات المثارة ضد سياسة تثبيت سعر الصرف ينبغي أن يتم وضعها في إطار النقاش الموضوعي والحوار الاقتصادي والنقدي وليس في إطار الاتهام وخصوصاً بالفساد.
والحفاظ على الاستقرار النقدي ربما أدى في مرحلة معينة إلى رفع معدلات الفوائد الدائنة لكن ذلك لا ينبغي النظر إليه بنظرة اتهامية كتدبير مشبوه، بل ينبغي أن تتم مناقشته في ظل تزايد المخاطر السياسية والأمنية والجيوسياسية التي تقود إلى رفع الفائدة على الليرة وحمايتها من التحول إلى العملات الأجنبية.
وفي ما عدا ذلك، فالمعروف أن مصرف لبنان في ظل حالة "الكوما" الحكومية والتلهي بالتجاذبات السياسية والصراعات الطائفية، وفي ظل فترات الفراغ المتكررة على الصعيدين الرئاسي والحكومي، فقد بادر على مدى الأعوام الماضية ومنذ العام 2009 إلى اتخاذ جملة من الخطوات التي كانت موضع ترحيب من السياسيين تمثلت في توفير "رزم" من التسهيلات لتشجيع المصارف على التسليف بالليرة اللبنانية في قطاعات تتعلق بالإسكان والصناعة والزراعة والطاقة المتجددة والتعليم بلغت قيمتها أكثر من 5 مليارات دولار وكانت عاملاً أساسياً في الحفاظ على معدلات النمو التي استمرت حتى العام 2011.
كما إن مصرف لبنان شجع على تعزيز اقتصاد المعرفة حيث أعد برنامجاً متكاملاً لدعم الشركات الناشئة العاملة في مجال تكنولوجيا المعلومات.
إن كل هذه السياسات التي انتهجها مصرف لبنان نيابة عن واجب ومسؤولية الحكومة، ربما كانت لها تأثيرات سلبية، وهو أمر طبيعي بالنسبة إلى اي تدبير نقدي، خصوصاً عندما تكون السياسة النقدية عاملة في ظل غياب تام للسياسة المالية.
الهندسات المالية
وبالعودة إلى اتهام مصرف لبنان بما يتعلق بالهندسات المالية التي اعتمدها خلال العام 2016 وما تلاها، فإن المسألة تبقى وجهة نظر مالية نقدية ثمة من يؤيدها ومن يعارضها، إلا أن هذه الهندسات أثمرت مردوداً للخزينة ومردوداً آخر لاحتياطات المصارف لتمكينها من مواجهة متطلبات "بازل" لكي تحافظ على انخراطها بالعولمة المالية.
والموضوعية تقضي أن تتم مناقشات الهندسات المالية بربطها بالظروف والمعطيات الاقتصادية التي رافقتها، سواء لجهة الفراغ الرئاسي والأوضاع الأمنية وعزلة لبنان عن محيطه العربي وانكفاء مجيء رعايا بلدان الخليج إلى لبنان وتوقف التدفقات المالية وتراجع تحويلات اللبنانيين العاملين في الخارج، الأمر الذي أدى إلى حصول عجز كبير في ميزان المدفوعات، علماً أن لا مصرف لبنان ولا رياض سلامة مسؤول عن هذه المعطيات السياسية.
وبالتالي، كان مصرف لبنان مضطراً إلى تعزيز احتياطاته ليتمكن من مواصلة توفير التمويل اللازم لاحتياجات الدولة التي كانت ممعنة في الإنفاق، ويمكن القول إن الهندسات المالية ربما انطوت على أخطاء مردّها إلى بعض الشوائب التي رافقت تطبيقها.
مسؤولية ثلاثية
أما وقد وصلت الأزمة إلى ما هي عليه، فإنه من المتفق عليه موضوعياً أن المسؤولية تتوزع بين الدولة ممثلة بالحكومات المتعاقبة وبين مصرف لبنان وبين القطاع المصرفي.
الحكومات المتعاقبة هي التي كانت مولجة بإعداد الموازنات السنوية وبعمليات الإنفاق سواء عبر الموازنة أم عبر القاعدة الاثني عشرية. وكانت الموازنات التي يتم إقرارها تتضمن إجازة من مجلس النواب بالاستدانة في حدود معينة من أجل تمويل العجز في الموازنة وكانت هذه الإجازة بمثابة قانون.
كان مصرف لبنان يتولى دفع ما تقرره الحكومات وبموجب عقود نفقة مستوفية الشروط. فهل تتم محاسبة من دفع المال قبل أن تتم محاسبة من أنفق المال؟ وكان مصرف لبنان يسعى إلى تعزيز احتياطاته لكي يستمر في تمويل مستلزمات الكهرباء وسائر الإدارات، وفي تمويل رواتب القطاع العام التي استحوذت على ثلث النفقات وربما كان رياض سلامة على خطأ في مجاراته لسياسة الإنفاق إما لاعتبارات سياسية أو محاولة منه لشراء الوقت رهاناً على إصلاح مالي قد يأتي.
استمرار الاستنزاف
مصرف لبنان الذي كان مستهدفاً من أطراف عدة حكومية وغير حكومية، استمر اللجوء إليه في الوقت نفسه من أجل تمويل القرارات الصادرة عن الحكومة.
تمّ استنزاف مصرف لبنان من خلال دعم سعر الصرف مع علم الجميع أن هذا الدعم سيذهب هباءً في ظل انعدام الثقة وتوقف التدفقات الخارجية، وتهافت المودعين على سحب مدخراتهم المحتجزة وكل هذا التدخل لم يجد نفعاً وكانت نتائجه عقيمة، ولم تنفع المنصة الإلكترونية أمام السوق السوداء والمضاربات المشروعة والمشبوهة.
ولأهداف شعبوية، تم استنزاف مصرف لبنان من اجل دعم المحروقات والقمح والطحين والأدوية، وصولاً إلى حزمة من السلع، مع استمرار التهريب المكشوف من جهة، والتخزين من جهة ثانية وعدم القدرة على ضبط الأسواق من جهة ثالثة.
وكان مصرف لبنان يمتثل لهذه الإجراءات خشية من تحميله مسؤولية التضخم وارتفاع الأسعار.
واستمر ذلك إلى أن وصل احتياطي مصرف لبنان إلى أدنى مستوى له واقترب كثيراً من الاحتياطي الإلزامي على ودائع المصارف التي هي ودائع الناس.
واليوم، وصل البحث إلى السياسة الواجب اتباعها ومناقشة الخيارات المتاحة بين ترشيد الدعم أو إلغائه عن بعض السلع أو مراعاة خفض الاحتياطي الإلزامي الذي قيل عنه إنه قرار غير قانوني إذا ما تمّ اتخاذه. والواقع أن كل الخيارات التي سيتم التوصل إليها هي مرة وضارة ولن تسمن من جوع.
إن ما وصلت إليه الأوضاع هي حصيلة المعالجات الهامشية التي لا تغير شيئاً من الواقع إلا في صورة مؤقتة. وبدل بذل الجهود في هذه الخيارات التي تضيق هوامشها يوماً بعد يوم، تستمر الطبقة السياسية الحاكمة والمتحكمة في تأجيل تشكيل الحكومة وفي تأخير تحقيق الإصلاحات كسبيل للوصول إلى صندوق النقد الدولي الذي ستمهد مساعدته إلى تشجيع المجتمع الدولي على مساعدة لبنان بعد أن فقد ثقته بالحكومة.
والسؤال هو: إلى أي مدى رياض سلامة شريك في هذه الأزمة؟ هل كان عليه أن يضرب على الطاولة ويتوقف عن تمويل الدولة إلى حين إقرار الإصلاحات؟ هل كان قادراً على ذلك؟ ولو ضرب على الطاولة ماذا كان سيحصل؟ مكافأة له أم لمزيد من الاتهامات؟ إنها أسئلة تصعب الإجابة عليها، لكن الأيام الآتية ستحمل الأجوبة.
تبقى إشارة أخيرة، إن عملية التحقيق الجنائي التي انتقلت من مجلس الوزراء إلى القصر الجمهوري ثم إلى مجلس النواب لتصل إلى وزارة المالية بصورة ملتبسة حول ما إذا كانت "توصية" مجلس النواب كافية أم أنها تتطلب إصدار قوانين، فإن هذه العملية التي أريد لها أخيراً أن تشمل كل الوزارات والمجالس والصناديق والمؤسسات العامة والبلديات، لن تتم بين ليلة وضحاها، بل تحتاج إلى فترة ربما تصل إلى سنتين.
والسؤال هو: هل إن نتائج هذا التحقيق أياً تكن ستكون ذات جدوى إذا انهار كل شيء في ظل استمرار الغياب أو تغييب الحكومة والامتناع عن تحقيق الإصلاحات. وهل تكون ضمانة للناس ضد الجوع والعوز والبطالة والهجرة والاضطراب الأمني؟
مؤسسات
أشخاص
الأكثر قراءة
-
المركزي الصيني: 98.5 مليار دولار تسهيلات إقراض متوسط الاجل
-
الخزانة الأميركية تعتزم بيع سندات طويلة الأجل بـ 183 مليار دولار الأسبوع المقبل
-
"جلف كابيتال" قوة استثمارية مؤثرة في الخليج وآسيا
-
ماذا تتضمن نشرة الإحصاءات الزراعية في السعودية لعام 2023؟
-
قطر: شراكة بين وزارة الاتصالات و"ستارتب جرايندر" لتعزيز الابتكار وريادة الأعمال