فرنسا تعود إلى لبنان: شرق المتوسط لي
فرنسا تعود إلى لبنان: شرق المتوسط لي
- د. كمال ديب
لا تنفصل زيارات الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون إلى لبنان والمشرق عن التغيّرات العميقة التي تحدث في عالم ما بعد وباء كوفيد-19، إذ إنّ هذه التغيّرات، طالت ليس فقط الاقتصاد والتكنولوجيا والسلوك البشري، بل الجيوبوليتيك الاقليمي والعالمي، وأزمة الوباء هذه أصابت الاقتصادات الكبرى وفي طليعتها الاقتصاد الأميركي، حيث كان التحدي بين أولوية إنقاذ الاقتصاد أو أولوية العناية بالصحة العامة. الإدارة الأميركية لم تنجح لا في هذا ولا في ذاك، بل النجاح كان في بلدانٍ أخرى مثل كوريا الجنوبية واليابان والسويد وألمانيا، وهذا في حد ذاته مؤشر لما هو آتٍ.
المبادرة الفرنسية لانقاذ لبنان تأتي في هذه اللحظة التاريخية التي تشهد تراجعاً أميركياً مؤقتاً ولكنّه غير مسبوق. التغيير بدأ أثناء الحرب السورية حيث شاركت فرنسا وألمانيا وتركيا في المسعى الأميركي لتبديل النظام في سورية، وكانت فرنسا تمنّن النفس أن تعود إلى الشرق الأدنى عبر بوابة الشمال السوري، إلا أنّ الأمر بدا عسيراً بعد استعادة الجيش السوري مدينة حمص في معركة بابا عمرو في العام 2012 وبعد أن امتنعت واشنطن عن قصف سورية في العام 2013، وكانت روسيا هي القوّة الدولية الأولى التي استعادت حضورها عبر بوابة الحرب السورية في العام 2015 بعد غياب 25 سنة، ثم أخذت ألمانيا ترفض الانصياع للإملاءات الأميركية وخصوصاً في ملف الطاقة واتفاق السيل الشمالي مع غازبروم عملاق الغاز الروسي، وحتى تركيا – عضو الحلف الأطلسي أخذت تتمايز باضطراد عن أميركا منذ محاولة الانقلاب الفاشلة سنة 2016.
وهنا تساءل الاستراتيجيون الفرنسيون: "إذا كان الآخرون يتسابقون في معارك الاقتصاد والنفوذ، فما بال فرنسا بإرثها الامبراطوري العالمي تكتفي بالتفرّج وتنفّذ إرادة قوى أخرى ولا تبادر إلى حماية مصالحها؟"، إنّ أكثر ما يبغضه الاستراتيجيون الفرنسيون هو عبارة "الشرق الأوسط" Middle East التي ورثتها أميركا عن بريطانيا في العام 1948 ومدّدتها بعد سقوط الاتحاد السوفياتي والكتلة الشرقية في التسعينات لتصبح "الشرق الأوسط الكبير" الممتد من أفغانستان إلى الدار البيضاء ليصبح العالم العربي من دون هوية وتشير إليه المنظمات الدولية "الشرق الأوسط وشمال أفريقيا MENA. ويفضّل الاستراتيجيون الفرنسيون عبارة "الشرق الأدنى" le proche orient الذي يثير مشاعر زمن قديم يعود إلى ممالك الفرنجة في بلاد الشام وفرسان outre-mer.
ضمن هذا الإطار، تعتبر عودة فرنسا إلى لبنان وشرق المتوسط كاسترجاع لدور تاريخي متواصل منذ مئات السنين لطالما سعت إلى استرداده منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. فالولايات المتحدة ورثت المنطقة من الامبراطورية البريطانية البائدة في العام 1948 بمذكّرة رسمية. أمّا فرنسا فلم تسلّم دورها لأميركا وحافظ رؤساؤها - شارل ديغول وجورج بومبيدو وفاليري جيسكار دايستانغ وحتى فرنسوا ميتران – على تمايز فرنسا عن أميركا ضمن عقيدة مجد فرنسا وحضورها، ثمّ إنّ فرنسا بدأت تستعيد دورها في لبنان منذ حقبة رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري - الفرنسي الهوى وصديق الرئيس جاك شيراك الدائم، فزاد عدد الشركات الفرنسية في بيروت في فترة الستعينات عن 5000 شركة وازدهرت المدارس والمعاهد التي تنشر لغة فرنسا وثقافتها، وكانت فرنسا وراء المؤتمرات الدولية كافة للدعم المالي للبنان من باريس 1 وباريس 2 وباريس 3، غير إنّ باريس تموضعت تحت المظلة الأميركية العام 2004 فكانت خطوة ناقصة أضرّت بلبنان وجلبت الأذى لمصالح فرنسا في المشرق، حتى بات عهدا الرئيسين نيكولا ساركوزي (2007- 2012) وفرنسوا أولاند (2012-2017) أكثر أميركية من الإدارة الأميركية نفسها.
لقد تراكمت الاحتجاجات الفرنسية المكتومة على سياسات أميركا التي تناقض أحياناً مصالح فرنسا، وانسحبت واشنطن من الاتفاق النووي مع إيران في العام 2018 وهو اتفاق حول ملفات تجارية واقتصادية ومالية. وهنا، رفضت فرنسا وألمانيا وروسيا والصين الانسحاب الأميركي. فالاتّحاد الأوروبيّ، يرى أنّ التعامل مع إيران منذ توقيع الاتّفاق النووي هو معقول ومناسب، وأنّ التعاون الاقتصاديّ مع إيران - وليس التصعيد – يجب أن يكون عنوان المرحلة المقبلة، وتصاعد الانزعاج الفرنسي عندما هدّدت واشنطن الشركات الفرنسية بعقوبات قاسية إذا لم تلتزم بالمقاطعة الأميركية لإيران، فالتزمت دول الاتحاد الأوروبي بقرار المقاطعة الاقتصاديّة والسياسيّة الأميركيّ ضمن المهلة التي أعلنتها واشنطن (أنَّ على الدول الأوروبيّة "ترتيب" أمورها وتوقف أيّ علاقةٍ مع إيران، وبخاصّةٍ التجاريّة والماليّة خلال 180 يوماً)، ولقد قبلَ الأوروبيون استمرار نظام العقوبات والضغط الاقتصادي الأميركي على مضض، وبما أنّ أميركا لم تحترم المثل العربي "إذا أردت أن تُطاع فاطلب المستطاع"، فالدول الأوروبية أفشلت مسعى أميركا في تمديد الحظر الأممي على توريد الأسلحة لإيران في آب/أغسطس 2020، وزادت عزلتها الدبلوماسية أمام الاتحاد الأوروبي والصين وروسيا وحتى بريطانيا.
وكانت فرنسا تراقب بحنق أسلوب تعامل واشنطن المؤذي مع لبنان، ركيزة الحضور الفرنسي الدائم في شرق المتوسط، وفرنسا لم تعد ترى الحرب السورية بمقاييس العام 2011 وباتت تتحالف مع مصر واليونان ضد تركيا وحلفائها، وترى أنّ دول جوار لبنان لا تعطي اعتباراً لاتفاق شركة توتال مع الحكومة اللبنانية حول التنقيب عن الغاز ولا يعترفون أنّ لبنان هو آخر مركز نفوذ لفرنسا في المنطقة، وموقع استراتيجي فرنسي بوجه تركيا. وكانت فرنسا ترفض في الكواليس سلسلة العقوبات والاملاءات الأميركية التي يعلنها المسؤولون الأميركيون من بيروت على الدولة اللبنانية، إلى أن بلغ السيل الزبى في نظر قصر الإليزيه في 4 آب/أغسطس عندما وقع انفجار مرفأ بيروت، لتبدأ سلسلة طويلة من المبادرات الفرنسية التي شهدتها بيروت بدءاً بوصول الرئيس إيمانويل ماكرون ومعاينته لمكان الانفجار في 6 آب/أغسطس، ثم إعلانه صفحة فرنسية جديدة في لبنان في أول أيلول/ سبتمبر الجاري قوامها أنّ "فرنسا ترفض انهيار لبنان، وتريد أن تتواصل مع جميع الأطراف فيه"، مشددة على أن "مبادرتها مدعومة أوروبياً"، وهذه المبادرة تحمل مكاسب جيوبوليتيكية واقتصادية لفرنسا في مشاريع الكهرباء والمرفأ والاتصالات والقطاع المصرفي.
في أول أيلول/سبتمبر 1920 أعلنت فرنسا بداية انتداب على لبنان استمر أكثر من عشرين عاماً، وفي 2020 تجدّد هذا الإعلان. يبقى انتظار ما ستكونه ردّة الفعل الأميركية والاسرائيلية.
الأكثر قراءة
-
المركزي الصيني: 98.5 مليار دولار تسهيلات إقراض متوسط الاجل
-
الخزانة الأميركية تعتزم بيع سندات طويلة الأجل بـ 183 مليار دولار الأسبوع المقبل
-
"جلف كابيتال" قوة استثمارية مؤثرة في الخليج وآسيا
-
ماذا تتضمن نشرة الإحصاءات الزراعية في السعودية لعام 2023؟
-
قطر: شراكة بين وزارة الاتصالات و"ستارتب جرايندر" لتعزيز الابتكار وريادة الأعمال