لبنان: هشاشة الموازنة لا تحجب فرصة الانقاذ
لبنان: هشاشة الموازنة لا تحجب فرصة الانقاذ
لجم الفوضى النقدية يحدّد ملامح المسار
- علي زين الدين
مهما علت موجة الانتقادات اللاحقة، عاجلاً كان أم آجلاً، بمشروع قانون الموازنة العامة، فإن فتح كوة مالية جديدة في الجدار السميك لكتلة الأزمات المتفاقمة، عقب الكوة النقدية التي حفرها مصرف لبنان بتغطية سياسية مشهودة، يمكن أن يتوسعا بالترابط مع كوّات مجاورة الى نافذة للهواء النقيّ واحداث تحوّلات تراكمية تتشارك بفعاليتها في "فرملة" سرعة الانهيارات المتواصلة، توطئة للانخراط في رحلة عكسية لاحتواء متدرج للخسائر الهائلة واستعادة انتظام الدولة حضوراً ومؤسسات عن طريق استحقاقات دستورية داهمة.
ومع تجنّب الحكم المسبق على "نوايا" أصحاب القرار الداخلي الذين يفرجون في توقيت متزامن عن خطوات نوعية طال المطالبة بها وانتظارها الى حدّ فقدان "الرجاء"، يبدو المشهد العام حافلاً بتناسق التقدم النقدي والمالي مع تقدم مماثل في مقاربة ملفات مهمة وشائكة وذات أبعاد داخلية وخارجية، قد تفضي مجتمعة الى بدء رحلة الألف ميل لاخراج لبنان من الهاوية السحيقة التي هوى الى قعرها.
توازن هش
في القراءة الأولية لبيانات مشروع الموازنة واستهدافاتها، أمكن رصد اشارات كثيرة يفضي أغلبها الى استنساخ مقولة "العين بصيرة واليد قصيرة ". ففي ظل الوقائع الحاضرة والضاغطة بشدة على كل مقومات الدولة وماليتها والاقتصاد الوطني، لم يكن في التوقعات الموضوعية قيام وزارة المال اجتراح المعجزات، بل ان اعداد مشروع الموازنة بما تحمله من توازن هش وغير مضمون، يتحول الى انجاز بذاته.
ومن أبرز الملاحظات الفورية:
- خروج الدولة الصريح من حال الانكار وتمهيد الطريق أمام اعتماد سعر صرف واقعي لليرة إزاء الدولار، علماً ان السعر الجديد، والمقدر أن يكون اقرب الى 20 ألف ليرة لكل دولار، سيقرر حكماً امكانية تحقيق كامل الايرادات الملحوظة.
- التوازي الرقمي بين الانفاق والواردات عند مستوى 49.4 تريليون ليرة، مع ملاحظة ادراج نحو 10.3 تريليونات ليرة كواردات استثنائية يجري تمويلها عبر الاقتراض الداخلي لصالح الخزينة، وهو ما يعني أن العجز التقديري يبلغ فعلياً نحو 21 في المئة.
- تزيد ارقام موازنة 2022 نظرياً بمقدار 2.6 ضعفي أرقام موازنة 2021، لكنها تتصف بالانسجام مع ضرورات تحسين مداخيل القطاع العام ومع الأسعار والأكلاف الواقعية للمصروفات الادارية واللوجيستية في الوزارات والمؤسسات، فضلاً عن تخصيص مبالغ لمساعدات اجتماعية طارئة.
- بقاء الثقب الأسود الذي يمثله تمويل مؤسسة الكهرباء، مركز ثقل وعجز في الموازنة بمقدار يصل الى 5.25 تريليونات ليرة، وهو ما يزيد رقم الاقتراض الداخلي تلقائياً الى نحو 15.5 تريليون ليرة، وبالتالي ما يزيد نسبة العجز الى نحو 31 في المئة.
- اعتماد سلة مرنة ومؤقتة زمنياً تؤمن الدعم الجزئي للقدرات الشرائية للأجور والمساعدات الصحية والاجتماعية، كخيار موضوعي بديل عن "بهلوانيات" سلاسل الرتب والرواتب التي تمّ استخدامها "تسويقياً" وحشد للأصوات قبيل الانتخابات النيابية العام 2018، والتي خلّفت تداعيات كارثية وطويلة الأمد على المالية العامة بفعل تضخم كتلة مداخيل القطاع العام وملحقاته.
ترابط وتنسيق
وبرغم الاختلال الذي يعتري أرقام الموازنة، فإن الغطاء السياسي المزدوج من رئاستي السلطتين التشريعية والتنفيذية، مكّن مصرف لبنان من المضي في تنفيذ التعميم الرقم 161، والهادف الى إعادة هيكلة سيولة المبادلات النقدية واسترجاع مركزية التحكم تحت السيطرة المتنامية لمنصة "صيرفة" التي يديرها بالمشاركة مع المصارف وشركات الصيرفة.
فدحضاً لمحاولات المضاربين ولحملات التشكيك، عاود مصرف لبنان التأكيد على الاستمرار بتنفيذ التعميم 161 بمفاعيله الأساسية وببيع الدولار الأميركي الورقي مقابل الليرة اللبنانية الورقية على منصة Sayrafa للمصارف وبسعرها المعتمد، ومن دون سقف محدد، كما تمّ الاتفاق عليه في اجتماع 11 كانون الثاني 2022 برئاسة رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ووزير المال يوسف الخليل.
ولفت حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الانتباه الى أن حجم التداول اليومي على منصة "صيرفة" لا يمثل (فقط) عمليات تدخّل من قبل مصرف لبنان في السوق النقدي للدولار، ولا حجم تدخله، لأن المنصة لا تتضمن فقط العمليات التي يقوم بها مصرف لبنان مع المصارف وانما يسجل عليها كل عمليات بيع وشراء الدولار التي تتم في السوق بين المسجلين على هذه المنصة عبر المصارف والصرافين حتى وان لم يتدخل فيها مصرف لبنان.
في المحصلة، أظهرت نتائج التعميم في 6 أيام عمل مكتملة، أن المسألة النقدية لم تخرج عن السيطرة، بل فقدت المظلة السياسية للدولة على مدار عامين ونيّف من المناكفات، لتبلغ في محطات متكررة حدود الصدام المباشر بين السلطة التنفيذية ممثلة برئاستي الجمهورية والحكومة (حسّان دياب) وشخص الحاكم سلامة. وليس من قبيل المبالغة التقدير بأن كلفة هذا الكباش لا تقتصر على تبديد نحو 20 مليار دولار( قياساً بمستوى احتياطات العملات الأجنبية قبل 17 تشرين الأول 2019 )، على الدعم وتوابعه من مصروفات عبر قرارات استثنائية كادت تستنفد كامل الاحتياطات الباقية والتي تساوي التوظيفات الالزامية للبنوك والعائدة حقوقها حصراً للمودعين.
الصندوق أقرب
في الأثناء، برزت معطيات تتسم بالايجابية من قبل ادارة صندوق النقد الدولي في ما يخص الملف اللبناني، حيث يرتقب استئناف المشاورات الافتراضية بين الجانبين في الاسبوع المقبل، بما يمهّد لتحديد موعد انطلاق جولات المفاوضات الرسمية، في ضوء الانتهاء من اعداد مشروع قانون موازنة العام الحالي، باعتباره هدفاً لا مفر منه على طريق اعادة هيكلة الدين العام الذي تعدى عتبة 100 مليار دولار.
وينوي الصندوق، وفقاً لمتحدثة باسمه، مواصلة الانخراط الوثيق مع السلطات في الأسابيع المقبلة لمساعدتها على صياغة استراتيجية إصلاحية شاملة تعالج التحديات الاقتصادية العميقة التي يشهدها لبنان، فيما لم يفت المسؤولة في الصندوق التنويه بأهمية أن يتوفر "التأييد السياسي على نطاق واسع لتنفيذ هذه الاستراتيجية، بما في ذلك تأييد أي حكومة تتولى زمام السلطة في المستقبل، وبحيث يجب أن تؤدي الإصلاحات اللازمة إلى استعادة الاستقرار الاقتصادي الكلي، والعودة بالديون إلى مستويات مستدامة، واسترداد ملاءة القطاع المالي، والعودة إلى تحقيق نمو مرتفع وأكثر احتواءً لكل شرائح المجتمع على المدى المتوسط".
وعلى الرغم من تراكم الاشارات الداخلية والخارجية الدافعة للتفاؤل بتحولات ايجابية في الفضاء اللبناني، فإن المواكبة الداخلية للفرصة المتنامية في حال نضوجها الفعلي، ستبقى حتماً مشروطة بإمكانية تحقيق انفراجات داخلية نوعية وإعادة تصويب علاقات لبنان مع محيطه العربي عموماً والخليجي تحديداً، كما إن المهمة الرئيسية المتاحة امام حكومة ميقاتي ستقاس بمدى قدرتها على اقرار الموازنة العامة والحاقها فوراً بتوزيع المسؤوليات والأعباء واستكمال اعداد خطة التعافي، بعدما نجحت في تأمين انسجام فريقها المكلف بالتفاوض مع صندوق النقد وتقدير فجوة الخسائر بنحو 69 مليار دولار من دون اعتراضات من قبل مكونات القطاع المالي.
إشارات دولية
بمعزل عن الخلفيات المتصلة بمنحى تطورات الملف الايراني في مفاوضات فيينا ومدى تأثيرها على تسلسل هذه التحولات وتزامنها على الجبهات النقدية والمالية والسياسية، لاحظت مصادر مالية ومصرفية مواكبة ورود اشارات دولية متعددة المصادر يؤمل انضاجها تباعاً، بحيث يمكن ان تشكّل، بتضافرها مع المستجدات المحلي، فرصة حقيقية واستثنائية لوضع لبنان على مسار كبح مسلسل الانهيارات المتوالي من دون هوادة على مدار 27 شهراً، ومن ثم حشد التوافق الداخلي والدعم الخارجي لخطة الانقاذ والتعافي الموعودة.
وليس عابراً، وفق رصد الاقتصاديين والمصرفيين، ترقب تحقيق تقدم في ملف ترسيم الحدود البحرية اللبنانية الجنوبية مع "إسرائيل"، عبر الجولة الجديدة للتفاوض غير المباشر التي سيقوم بها قريباً الموفد الاميركي الخاص آموس هوكشتاين، حيث سبق ان ترددت معلومات مفادها أن "إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية تستعجلان الوصول إلى اتفاق قبل شهر آذار/مارس المقبل، وهو موعد بدء الإسرائيليين بالتنقيب عن النفط في بحر كاريش. وحيث رجح المراقبون أن يكون الإسرائيليون قد وافقوا على إعطاء لبنان حقلاً كاملاً على أن يعود حقل كاريش كاملاً لإسرائيل.
وبالتوازي، يبرز التقدم المحقق في استثناء لبنان جزئياً من تبعات قانون "قيصر" الأميركي عبر تيسير استجرار الكهرباء من الاردن (يجري توقيع الاتفاق خلال أيام) والغاز من مصر وتغطية الاكلاف عبر تمويل ائتماني ميسر من قبل البنك الدولي، بحيث تتهيأ الارضية الملائمة للبدء بسدة جانب من فجوة الامداد بالتيار عبر مؤسسة الكهرباء، انما ضمن مخطط آني ومتوسط الأجل يتركز على مقاربات مختلفة وذات مضامين موضوعية وشفافة ومنهجية تنفيذية تحت المراقبة التشاركية والاستشارية الدولية، لهذه المعضلة التي شكلت نواة العجز والهدر في الموازنة العامة وتراكم الدين العام.
الأكثر قراءة
-
المركزي الصيني: 98.5 مليار دولار تسهيلات إقراض متوسط الاجل
-
الخزانة الأميركية تعتزم بيع سندات طويلة الأجل بـ 183 مليار دولار الأسبوع المقبل
-
"جلف كابيتال" قوة استثمارية مؤثرة في الخليج وآسيا
-
ماذا تتضمن نشرة الإحصاءات الزراعية في السعودية لعام 2023؟
-
قطر: شراكة بين وزارة الاتصالات و"ستارتب جرايندر" لتعزيز الابتكار وريادة الأعمال