خط الدفاع الأخير
خط الدفاع الأخير
- رشيد حسن
إزاحة سلامة تمهد لتغيير النظام المالي لكن البديل سيعزله تدريجياً عن العالم
من العلامات الأخيرة على تخبط حكومة الإنقاذ والإصلاح اللبنانية أنها حفرت فخاً سياسياً لتقع هي فيه، جنّدت كل قواها والشارع والصحافة التابعة ولغة التهديد وكسرت كل التقاليد عبر شن رئيس الحكومة هجوماً شاملاً على حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، لتخفت بعد ذلك الهجمات وتصدر بيانات التنصل وليعود رئيس الحكومة إلى الظل تاركاً الساحة للقوى التي تتحكم حالياً بالقرار.
بغض النظر عن المسؤولية التي قد يتحملها عن مآل الوضع النقدي والمصرفي، فإن الهجوم السياسي على حاكم المصرف المركزي في عزّ الانهيار المالي والحاجة إلى إظهار جبهة موحدة وسياسات واضحة تطمئن اللبنانيين والمستثمرين دلّ في حد ذاته على مدى التدهور الحاصل في أهلية الطبقة السياسية في لبنان والتي أصبحت تضع معاركها بل وثاراتها الشخصية العمياء في رأس أهداف الحكم بدل التركيز على المعالجة السريعة والمسؤولة للتدهور الاقتصادي والمعيشي والمالي ووقف الانزلاق السريع للبلد نحو الفقر والتفكك الاجتماعي والفوضى الأمنية.
تحدي الصمود
كذلك بدا الحاكم رياض سلامة أكثر من أي وقت باعتباره خط الدفاع الأخير للنظام المالي والمصرفي اللبناني، أمام الحملة الشرسة التي تستهدف السيطرة عليه بغض النظر عن الأثمان التي يتوقع أن تصيب البلد فوراً، من عزله تماماً عن النظام المالي العالمي ومنعه من التعامل مع المصارف والمؤسسات المالية الدولية والتمهيد في ظل حاكم جديد لمصرف لبنان لدفع الليرة اللبنانية بالاتجاه الذي سارته قبلها عملات أخرى فقدت قيمتها بسرعة مذهلة واُخرجت بلدانها من النظام المالي الدولي، وباتت هذه العملات بالتالي غير صالحة كأداة دفع أو تداول في التعاملات الدولية، وهو ما يؤدي في النهاية الى اختناق مالي وانكماش اقتصادي مريع.
ثم إذا كانت معطيات الاقتصاد اللبناني، في غياب أي برنامج إصلاح وأموال جديدة، ستقود لا محالة إلى المزيد من الانهيار الاقتصادي والمالي، فما الذي سيمكن لـ رياض سلامة القيام به لإحداث فرق أو تغيير في المسار الكارثي؟
المهم في الأمر هو أن رياض سلامة لم يعد هو الموضوع ولم يكن هو الموضوع أصلاً كما يعرف اللبنانيون جميعاً الآن، إذ إن العهود المتعاقبة للمحاصصة الطائفية واستباحة المال العام ومرافقه عبر الإنفاق غير المراقب والتعاقد بالتراضي وتوظيف الأزلام بالألوف والانفاق اللامتناهي على الكهرباء المقننة ابداً والتهرب الضريبي والجمركي والتوقف عن إعداد ميزانيات أو قطع حساب سنوي لأكثر من 12 عاماً، كل ذلك كان جفف الدم من عروق الاقتصاد اللبناني ووضع الأسس لارتفاع جبل الدين ومقدمات الإفلاس.
هذه الحقيقة يعرفها الخصوم قبل الأصدقاء، الآن بالطبع باستثناء الذين يتم إطلاقهم للتخريب ونشر اليأس والترهيب، لكن على الرغم من وضوح الأمور، فإن الحقيقة في مواجهة سلاح القوة لا تكفي، ورياض سلامة يكاد يشبه اليوم ذلك الحمل في قصة لافونتين الشهيرة والذي اتهمه الذئب الجائع بأنه عكّر عليه الماء قبل أن يلتهمه.
حاكم مصرف لبنان سيكون ربما أول من يعترف بأنه أخطأ خصوصاً في الرضوخ لدولة الفساد السياسي والقبول بمتابعة تمويلها، كما إن المصارف ستعترف بأنها هربت من مواجهة الدولة وأخطأت بقبولها الاستمرار في متابعة مدّ الدولة المدمنة على الهدر بالمال الجديد كما يُمدّ مدمن الهيرويين بالمزيد من المخدر خوف أن يحطم الزجاجيات الثمينة والأثاث.
هل كان على سلامة أن يتوقف عن تمويل عجز الكهرباء وسلسلة الرتب والرواتب وأن يطالب الدولة بالإصلاح؟ ربما، لكن هل كان سيجد الحماية السياسية من داخل النظام الفاسد؟
هل كان واجباً عليه أن يستقيل ويترك النظام يقلع شوكه بيده؟ من الصعب الجواب لأن سلامة اقتنع ربما بعد سنوات طويلة من إدارة الوضع النقدي أنه بات رجلاً لا يستغنى عنه في الحفاظ على شيء من المصداقية للبنان في المحافل المالية الدولية، وربما اقتنع أنه يحمل رسالة لا يستطيع الانسحاب من مسؤولياتها؟
بغض النظر عن قسط المسؤولية الذي يتحمله، وإذا كانت هناك فعلاً نية للإصلاح، فلماذا يجب أن تقتصر المحاسبة على شخص أو شخصين، وماذا عن عشرات السياسيين والمسؤولين من جميع الطوائف والقوى السياسية الذين توالوا على إدارة المال العالم وشغلوا مناصب المسؤولية وساهموا كل من موقعه في مراكمة العجوزات وثالث أكبر دين عام بالنسبة الى الناتج المحلي في العالم؟ ماذا عن الكهرباء وغيرها، وهل ما نراه هو طلب حساب من سلامة أم تصفية حسابات مكلفة جداً للبلد؟
وحيداً بعد اغتيال الحريري
وربما انتاب سلامة شعور بالندم على قبوله الاستمرار في منصب الحاكم على أثر اغتيال رفيق الحريري في العام 2005 بل ربما فكر في العودة إلى مهنته المصرفية والعيش في الخارج، لكنه كان حينذاك وبعد 12 عاماً من تسلمه المصرف المركزي قد فقد خط العودة كما يقال، وهو أدرك بعد ربيع لبنان 2005 وانسحاب الجيش السوري أن الحاجة إليه باتت ربما أقوى من السابق للحفاظ على الاستقرار النقدي وتأمين خطوط التمويل للدولة والقطاع الخاص وملء الفراغ الذي تركه اغتيال الرئيس الحريري.
وبالفعل تحول سلامة في تلك الفترة الانتقالية الحساسة إلى المرتكز الأهم لتأمين استمرارية لبنان المالية والنقدية واستمرارية الثقة الدولية والعربية بلبنان ونقده وفرص الاستثمار فيه، كما سلطت الأضواء عليه خلال الأزمة المالية الطاحنة التي ضربت الأسواق الدولية سنة 2008 عندما تبين أن لبنان لم يصب بآثار تلك الأزمة بسبب قرار بعيد النظر لـ سلامة يحظر على المصارف التعامل بالمشتقات المالية.
سمعة مالية
وكان لوجود رياض سلامة دور مشجع على استمرار التدفقات المالية على البلد حتى بعد بوادر التدهور الاقتصادي الذي نجم عن الحرب السورية وتدفقات اللاجئين وتصاعد التوتر الإقليمي، كما كان للثقة الدولية بـ سلامة دور أساسي في تجنيب لبنان العقوبات الأميركية والدولية عند كل منعطف كانت واشنطن تُسقط فيه أحد البنوك اللبنانية بتهمة التعامل مع إيران وحزب الله، وازدادت حساسية دور سلامة والحاجة إلى براعته في تدوير الزوايا مع تصاعد المواجهة الأميركية-الإيرانية في المنطقة وازدياد وتيرة العقوبات الأميركية على النظام الإيراني وعلى حزب الله، لكن سلامة أخذ على عاتقه تأمين التزام لبنان بالقرارات الدولية حماية للنظام المصرفي من سهام العقوبات الأميركية، وهذا على الرغم من الغضب الذي أثاره هذا الموقف في بعض الأوساط اللبنانية، وقد كان دفاعه هنا بسيطاً جداً وهو أنه لا خيار للبنان في الالتزام بالعقوبات ولا خيار له كحاكم مصرف لبنان من الدفاع عن البلد واقتصاده ونظامه المالي.
مستقبل قاتم
وكان متوقعاً أن يكون للحاكم وعلاقاته الدولية دور مفيد في مفاوضات مستعجلة مع صندوق النقد الدولي تساعد لبنان على استقطاب الأموال الجديدة من الصندوق ومن الدول الراعية لمؤتمر "سيدر" وربما من صناديق أوروبية وعربية والمطلوبة لاعادة هيكلة الوضع المالي وتشغيل الدولة وتفادي الحضيض الاقتصادي والمعيشي.
لكن من الواضح أن التوجه السياسي كان خلف الكواليس ثم في العلن ينتقل إلى مكان آخر، إذ قررت جهة سياسية نافذة أن مصلحتها السياسية ليست في دعم مسار الإصلاح وإنقاذ الوضع المالي والمصرفي بل إن مصلحتها هي على العكس في تسريع عملية الانهيار واستفراد البلد بحرمانه من أي دعم مالي دولي. أما الحسابات التي دفعت إلى هذا الانقلاب في المواقف فهي وجود خطة متكاملة ومدروسة للتخلص من النظام المصرفي الذي يحدّ من حركة المنظومة المالية الموازية في لبنان.
وبتكامل هدف إسقاط المنظومة المصرفية بهدف آخر هو التمهيد لنظام مالي ومصرفي بديل يكون أكثر تعاوناً وتسهيلاً للمعاملات المالية المحظورة عالمياً، مع ما تعطي السيطرة على الجهاز المصرفي من أسلحة سياسية لا تقدر بثمن في ترويض القيادات السياسية والمؤسسات ومفاصل المجتمع اللبناني كافة.
أخيراً، وبغض النظر إذا كانت هذه الخطة ستنجح في فرض نظام مالي ومصرفي جديد على البلد، مع ما سينجم عن ذلك من عزل تدريجي للبنان عن النظام المصرفي العالمي، فإن معركة إسقاط الحاكم التي ترافقت بحرب على الليرة اللبنانية من صرافين يدورون في فلك القوى المهيمنة تسببت بأذى هائل لما بقي من الثقة بالنظام المالي والمصرفي اللبناني، وعطّلت كل الكوابح النفسية والتقنية التي يمكن أن تساعد في الدفاع عن الاستقرار وما تبقى من ثقة في أوساط اللبنانيين والعالم الخارجي، وبات اللبنانيون يعلمون الآن أن مصيرهم وعيشهم ومستقبل أولادهم في الميزان، وأنه ما كان الجميع يعتقدون بأنه غير ممكن الحدوث في لبنان، أي الفقر والبطالة والجوع، لم يعد مستحيلاً بل إن طلائعه على العكس بدأت تقرع الأبواب ..فاستعدوا أيها اللبنانيون.
مؤسسات
أشخاص
الأكثر قراءة
-
الملتقى الاقتصادي التركي - العربي الخامس عشر: لمزيد من التعاون المشترك بين تركيا والبلدان العربية
-
المركزي الصيني: 98.5 مليار دولار تسهيلات إقراض متوسط الاجل
-
الخزانة الأميركية تعتزم بيع سندات طويلة الأجل بـ 183 مليار دولار الأسبوع المقبل
-
"جلف كابيتال" قوة استثمارية مؤثرة في الخليج وآسيا
-
قطر: شراكة بين وزارة الاتصالات و"ستارتب جرايندر" لتعزيز الابتكار وريادة الأعمال