إن انفجار الأزمة النقدية غير المسبوقة بهذا الحجم وبهذه التداعيات، يرتكز على عوامل مالية وسياسية متشاركة في التأثير والتأجيج. وبغياب التصحيح السياسي ستبقى المعالجات ناقصة ولا تضمن العودة الى الوضع الذي اعتاد لبنان واللبنانيون العيش في ظلاله.
لقد اظهر لبنان على مدى عقود مستوى عال في العيش وحرية الانتقال في الداخل والخارج، وقد اعتبر الكثيرون أن اللبنانيين ينفقون أكثر مما ينتجون، وأن نمط العيش محكوم بالتغيير بحكم تقلص الموارد في الفترة المقبلة. وهذا الكلام يتصف ببعض الصحة، إنما يجب ألّا يغيب عن البال أن مظاهر الغنى والرقي مطلوبة لاستمرار اقتصاد لبنان، إذ إن قطاع الخدمات في لبنان لا يقل ولا يجب أن يقل عن أي من القطاعات الاقتصادية الأخرى، وإن كنا نؤيد الدعوة المحقة لإعطاء القطاعات الانتاجية الأهمية والدعم لأجل التحول إلى بلد إنتاج.
وفي التصويب، تسلك المعالجات تقنياً واحداً من خيارين: فإما التصفية وإما اختيار الاستمرارية. وطالما أن الازمة القائمة تطول مالية الدولة ورساميل مصرف لبنان والمصارف واموال المودعين، فإن المعالجات تستلزم الحفاظ على هذه الأموال وعلى المؤسسات وسمعة البلاد، وما من فوائد مأمولة من الهندسات الرقمية أو الورقية ما لم تضمن ضخ اموال جديدة تضمن اعادة النهوض.
لذا، فإن مسار الاستمرارية هو حتمي ويتطلب معالجة الأسباب وإعطاء الأهمية لمصادر تغطية أي خسائر او فجوات بدلاً من الضياع بمبالغ الخسائر او الفجوات، لأنه لا جدوى من وضع أنفسنا في دائرة الخسائر بدلاً من التغطية او الاستمرارية والا فاننا نحول المعالجة الى مسار التصفية.
في هذا السياق، سنتطرق إلى نقاط الأزمة ونقترح المعالجة لكل منها مع الحفاظ على هدف النهوض والاستمرارية.
الاصلاحات المطلوبة لتحقيق التوازن في المالية العامة
المعضلة تبدأ من الموازنة وتعود في تاريخها الى العام 1975 حين اندلعت الحرب واستولت الميليشيات على موارد الدولة وباتت الحكومات أسيرة الدمار والنهب والسرقة. صحيح أن الدولة التزمت حدود إيراداتها ولم تلجأ إلى الاستدانة حتى العام 1984، غير إن تآكل البنية التحتية جعل من البلاد بحالة اهتراء كاملة وبحاجة إلى صندوق إعادة اعمار. بادر الرئيس الشهيد رفيق الحريري الى انشائه عند انتهاء الحرب في العام 1990 وقد تطلب ذلك اللجوء إلى الاستدانة بالليرة وبعدها بالدولار وبما ان الأوضاع لم تتسم يوماً بالاستقرار الطويل الأمد فكان يتوجب على الدولة تكوين احتياط إضافي في ماليتها لمواجهة الطوارئ ظهر واضحاً في أرصدة الحساب 36 لدى مصرف لبنان والذي بلغ نحو 9 مليارات دولار بالليرة وكان ذلك ايضاً على حساب حجم مديونيتها.
في البداية كانت شهية المصارف كبيرة لإقراض الدولة تحولت بعدها إلى رغبة بتفادي الإقراض، فاضطر مصرف لبنان إلى لعب دور الوسيط من خلال ايداع المصارف فائض السيولة لديه واقراضها بدوره إلى الخزينة وكان هامش الفوائد كفيلاً باستمرار هذا النمط من العمل المصرفي بالعملتين الليرة والدولار.
لاحقاً، توسع الناتج المحلي واستطاعت الخزينة تحقيق فائض في الحساب الأولي، لكنه بقي دون حجم الفوائد السنوية، ما أدى إلى تراكم الدين، وكان من الخطأ عدم التركيز على الإطفاء التدريجي للدين، علماً أن مؤتمرات باريس الثلاثة كانت تهدف إلى معالجة الدين وتوازن المالية العامة لكن تخلف الحكومات عن إجراء الإصلاحات، على الرغم من الوعود المتكررة، تركت الامور تتفاقم والدين يتراكم.
لذلك، الحل يبدأ بتوازن المالية العامة وحيث إن العجز ناتج عن الفوائد وتراكمها وعجز الكهرباء، وبما أن الفوائد بمعظمها تعود للمصارف ومصرف لبنان، فإن المطلوب معالجة الكهرباء التي أصبحت عنواناً عريضاً لتخلف لبنان واللبنانيين، كذلك إيقاف الفوائد والعمل على تعزيز الحساب الأولي وربط الانفاق الاستثماري بالفائض الحاصل والإبقاء على رصيد يشكل نواة المعالجة لإعادة هيكلة الدين. إن مقاربة الدين في تخفيضه أو تسديده قبل توازن المالية العامة لا يؤدي إلى نتيجة لأن مصادر التسديد الجزئي أو الكلي غير متوفرة، كما إن توازن المالية العامة لا تتحقق من دون إصلاحات حقيقية تعالج بنود الإنفاق وتوزيعها وهي تقسم إلى ثلاث فئات أساسية هي: الرواتب والتعويضات، الكهرباء والفوائد.
إذا تحقق الفائض في الموازنة يصبح البحث في سداد الدين امراً ممكناً وبغياب التوازن والإصلاحات تبقى الأرقام والمقاربات من باب الافتراض غير المفيد.
الإصلاح الضريبي مطلوب والضريبة التصاعدية وعملة تسديد الضريبة يبقيان أعمدة الموازنة لهدفين أولهما توازن المالية العامة وثانيهما تأمين السيولة بالعملة الأجنبية.
مقاربة واقعية للودائع
الودائع حق للمودعين أودعت في مصارف تجارية اكتسبت على مدى عقود عناصر الأمان والضمانة من خلال مسيرة طويلة، لم يخسر المودع أمواله على الرغم من إنهاء عمل عدد من المصارف من خلال التصفية او الدمج.
كما إن الكلام عن المال المنهوب أو المسلوب لا علاقة له بحفظ الودائع فالسرقات تتابع ويلاحق مرتكبوها سواء كانت البلاد في بحبوحة أو أزمة، لكن الودائع هي نتيجة جهد الأبناء وسبب بحبوحة لبنان منذ الاستقلال واي مجازفة بها يعني ضياع سمعة البلاد واعدام القطاع المصرفي وكل الاشارات الى الاقتطاع الجزئي من الودائع هو بمثابة هدم النظام المصرفي في لبنان.
هذا بالطبع لا يعني أن المودعين بإمكانهم استعادة أموالهم غداً والسبب ليس كما يقال إنها غير موجودة، بل لأنها في عملة لا يكون فيها البنك المركزي مصرف الإصدار. والمصارف لم تخسر الأموال، إنما قامت بإقراض جزء منها إلى القطاع الخاص وجزء آخر في سندات الدين الحكومية أي اليوروبوندز، وأودعت الجزء الأكبر لدى مصرف لبنان.
مع تهافت المودعين على تحويل الودائع وطلب سحبها لم يكن بالإمكان تلبية السحوبات بالدولار لسببين، أولهما ضعف سيولة المصارف في الخارج، وثانيهما تمسك مصرف لبنان بموجوداته الخارجية، مبرراً ذلك بعدم استحقاق ودائع المصارف لديه ولكونه لا يصدر هذه العملة لمواجهة احتياجات القطاع المصرفي من السيولة بالدولار، يضاف إلى ما سبق أن دولار الوديعة استعمل جزئياً لسد احتياجات القطاعين الخاص والعام على مدى عقود ولم يعد بالإمكان إعادة تكوينها الا بعد استعادة البلاد عافيتها.
لذلك، لا بدّ من معالجة الودائع بواقعية وضمن مبادئ حبس الوديعة مع الحفاظ عليها وعدم إهانة أصحابها في استعمالها لسد الاحتياجات المعيشية. ويجب مصارحة المودع أن الوديعة بالدولار هي دولار لبناني غير قابل للتحويل نقداً أو خارج البلاد ويصرف في السوق المحلية ولأجل مقابلة هذا التعسف في حقوق المودعين لا بدّ أن يكون السحب والصرف على أساس سعر السوق وهذا السعر هو المدرج على منصة مصرف لبنان وضمن مبالغ محدودة وما يفوق هذه المبالغ تصرف على السعر الرسمي اي 1515 ليرة للدولار.
لا يعقل أن تكون السحوبات غير محدودة لأن الصرف على سعر المنصة يعكس فروفات سعر يتحملها بالنتيجة مصرف لبنان، وأن السحوبات من دون سقف يعني ضخ كتلة نقدية بالليرة تؤدي إلى تضخم غير مقبول، لذلك، الاقتراح أن تكون السحوبات السنوية لا تتعدى الـ 6 مليارات دولار وذلك يوزع بمعدل 60 ألف دولار سنوياً للفرد، أي أن وديعة المليون دولار تستغرق أكثر من 15 سنة لسحبها بالكامل.
إن هذا الاقتراح يجعل من الكتلة النقدية قابلة للإقراض المحلي ويصبح البنك المركزي مصرف الملاذ الأخير في مد المصارف بالسيولة المطلوبة. إن الاتجاه في خيار اقتطاع الودائع لسداد الدين العام لا ينظر إليه بأنه سرقة الحقوق فحسب، بل أيضاً تجفيفاً للسيولة المطلوبة لتحريك الاقتصاد المحلي.
هذا الاقتراح لا نزعم أنه يحفظ الحقوق كما يجب أو يتوخاها المودع، لكنه يعالج هذه الحقوق في ظل أزمة حادة تهدد ضياع الحقوق إذا لم يتم مقاربتها بواقعية وجرأة.
اما الودائع بالليرة فيترك أمر استعمالها من دون سقف أو تحويلها إلى دولار على سعر 1515 ليرة شريطة تجميدها لمدة لا تقل عن سنتين ليتم بعدها سحبها وفقاً للاقتراح السالف ذكره. إن القصد من ذلك الابقاء على قيمة الرواتب وتفادي زيادة سلم الرواتب او إحداث اضطرابات اجتماعية.
لذلك، اتخذ مصرف لبنان اجراءات عاجلة لتخفيف حدة خوف المودع إذ مد المصارف بالسيولة اللازمة لمواجهة السحوبات بالدولار للاستعمال الداخلي من تسديد لقروض أو تملك عقارات أو تحويل الحساب من مصرف الى آخر أو ما شابه وذلك من خلال إصدار شيكات مصرفية مسحوبة على حساب المصرف في مصرف لبنان سداداً لوديعة المودع عند طلبه وإقراض المصرف في المقابل من مصرف لبنان إذا كانت سيولة الاخير غير متوفرة. لكن للأسف ظهرت علامات سوء استعمال لهذه الشيكات أو السحوبات إذ بادر العديد وأحياناً بوساطة الصرافين أو فروع المصارف إلى بيع الشيكات المصرفية مقابل الدولار النقدي ما شكل ضغطاً كبيراً على سعر الصرف وتغذية السوق السوداء، وهذا يستوجب مراقبة شديدة من المصارف لتحديد الغاية ووجهة استعمال الأموال المسحوبة وإلا ستكون سبباً لتفاقم أزمة سعر الصرف.
سعر الصرف: التحرير في غير محله
يعيش لبنان أسعار صرف متعددة، وذلك يزيد من الأزمة، إذ يخلق ارباكاً في التسعير للسلع والخدمات. الدولار الأميركي هو القابل للتحويل أو الصرف خارج البلاد وهذا ينطبق على الدولار النقدي والودائع الواردة حديثاً مع التنويه أن القانون لا يميز بين القديم والجديد وأن هذه الممارسة من البنوك تتطلب قانوناً جديداً ينظم العمل الجديد في المصارف.
إن الواقع الحالي يجعلنا نقبل سحب التحويل الجديد نقداً والتمييز بين سعر الدولار النقدي ودولار الوديعة وبالتالي العمل بسعرين فقط هما الـ 1515 وسعر المنصة وأي سعر آخر في السوق السوداء يلاحق أمنياً، ليس لاتباع نظام اقتصاد بوليسي، بل لأن العاملين في هذه السوق غير مرخصين وأن المرخصين ملزمون احترام سعر المنصة.
إن السوق السوداء ستستمر لأن الطلب كبير والعرض محدود، ومهما ارتفع السعر لن يزيد العرض لأن اكتناز الدولار النقدي والعمل ضمن الاقتصاد النقدي يجعل من العرض محدوداً. ولذلك، فإن الطلب على الدولار سيتحدد بقدرة الاقتصاد على الاستيراد بالسعر الذي يمكن للسوق أن يتقبله ولذلك نتوقع ان ينعكس ارتفاع السعر على تدني حجم مخزون السلع وارتفاع أسعارها.
إن دور الصرافين لا يجب أن يتعدى إمكاناتهم، ولا يجب أن يتحول دور المصارف إلى الصرافين وأن إضعاف النظام المصرفي لن يساهم في حل الأزمة وعلى الجميع الإدراك أن حجم الاستيراد والتحويل الخارجي سيبقى ضمن التدفقات الواردة وان هذه الواردات لن تتوقف سواء من أموال أبنائنا أو من السياحة وأن استقرار الأوضاع السياسية سيفتح الباب أمام الاستثمارات والمساعدات وأن التطلع إلى الاقتصاد المنتج سيكون حتماً لكن بعد وضع أطر الحلول قيد التنفيذ.
خلاصة الكلام إن تحرير سعر الصرف في غير محله، فالسعر الحر هو الذي يساوي العرض مع الطلب ولا يمكن في هذه الحال التوازن في ظل احتباس ودائع بـ 125 مليار دولار واكتناز الدولار عند توفره وعندها وفي حال التحرير يمكن أن يصل الدولار إلى ستة أرقام. لا بدّ من التعايش مع سعرين كما أسلفنا والقبول ضمناً بالسوق السوداء ومحاربتها علناً وبجدية.
لا بدّ لمصرف لبنان والمصارف أن تكون حازمة في انتقال الودائع من خلال الشيكات المسحوبة على مصرف لبنان فلا يسمح بها إلا إذا كانت أغراضها واضحة منعاً لاستعمالها في عمليات المضاربة من خلال مبادلة الشيكات بالدولار النقدي لاكتنازه او تحويله الى الخارج. إن التدفقات النقدية الواردة لن تتوقف لكن يتوجب استعمالها بالاقتصاد وليس لمبادلتها بشيكات الودائع وحبسها عن الاستعمال الداخلي او الاستيراد، تشكل هذه المبادلات السبب الاساسي والرئيسي لتدهور العملة ، لأن الدولار المقابل هو دولار هروب بدلاً من دولار الضرورة الذي انخفض الطلب عليه نتيجة تراجع حجم الاستيراد والسفر والعمالة الأجنبية.
الدين العام: شراء سندات الخارج وإعادة جدولة
معالجة الدين ليتناسب مع الناتج المحلي أمر أساسي غير إن تخفيضه عن طريق الاقتطاع من الأموال الخاصة للمصارف وأموال المودعين يشكل خطيئة كبرى لأن ذلك ينهي النظام المصرفي ولا يضخ أي رساميل في السوق المحلية.
إن هدف التخفيض يجب ان يبقى لكن الاسلوب والمدة تختلف عن طرح الحكومة.
الدين العام البالغ نحو 90 مليار دولار هو تجاه 4 جهات رئيسية :
- مصرف لبنان : نحو 35 مليار دولار.
- المصارف : نحو 32 مليار دولار.
- مؤسسات خارجية 11 مليار دولار.
- دائنون آخرون 12 مليار دولار.
باستثناء المؤسسات الخارجية يبقى الدين لأطراف لبنانيين أو داخليين. إن الخلل بالسداد لم يكن صائباً وبما أنه حصل فيجب تصحيحه وذلك بتكليف مصرف لبنان والمصارف شراء السندات بحسومات كبيرة لحصر المديونية داخلياً.
إذا أخذت هذه الخطوة يسهل معالجة الدين أولاً بتخفيض التكلفة إلى درجة ايقاف الفؤائد لفترة زمنية، وثانياً بإعادة الجدولة لمدة كافية لتمكين الدولة من احترام التزاماتها، وهذا الاقتراح يتناسب مع معالجة الودائع لأن تمديد فترة السداد يقابله حبس الودائع قصراً وأيضاً تخفيض كلفتها على المصارف.
أما برنامج التسديد لا يمكن وضعه قبل توازن المالية وتحديد الفائض الذي يشكل مصدر التسديد وأي حديث عن التصحيح الورقي لن يأتي بموارد جديدة وانعكاسه الوحيد هو ضياع الثقة وانعدام فرص استعادتها.
إعادة هيكلة القطاع المصرفي
المصارف أمام معضلتين الأولى فقدان مكانتها في الحفاظ على أموال الناس ولعب دور الوسيط النقدي والمالي لتمويل الاقتصاد وثانيهما ضياع أموالها أو القيمة الاقتصادية لرساميلها. صحيح أن السواد الأعظم من الأموال الخاصة والبالغة 21 مليار دولار هي نتيجة تراكم الأرباح عوضاً عن تلك الموزعة ، وصحيح أن جزءاً كبيراً من هذه الأرباح المتراكمة هي من اعباء الفوائد على الدين العام لكن الصحيح أيضاً أن مرونة وصلابة النطام النقدي هو الذي ساهم في استمرار البلاد قائمة لتاريخه وبمظهر البلد الغني على الرغم من الفشل السياسي والاداري والحكومي لمرافق الدولة كافة.
إعادة الهيكلة لن ولا يجب أن تقتصر على إعادة تكوين الرساميل بل الأهم إلى إعادة الحوكمة وتكوين السيولة الخارجية والتي بدونها لا أمل في اعادة دورها التقليدي في استقطاب الودائع وتمويل الاقتصاد. إن هذه الهيكلة تتطلب أولاً قانون تنطيم العمليات المصرفية لتشريع فصل الودائع الجديدة عن الأرصدة الحالية أو بتاريخ الأزمة وإصدار قانون يحدد الحد الأدنى لرأس مال أي مصرف مع وجوب الالتزام بتكوينه في حدود سنتين تحت طائلة دمجه أو تصفيته والطلب من مصرف لبنان تنفيذ ذلك. الاقتراح يمكن أن يحدد الحد الأدنى بمبلغ مليار دولار شريطة أن يكون 25 في المئة منه أم من مجموع الودائع سيولة متوفرة في الخارج مودعة في مصارف الدرجة الأولى، كما يتضمن الاقتراح التوجه بجدية نحو الشراكات الاستراتيجية مع مصارف إقليمية ودولية مع ترجيح كفة الإقليمية لأن الاتجاه للمصارف الدولية في الفترة الأخيرة كان الانسحاب من عدد من دول منطقة الشرق الاوسط.
إن عدد المصارف وإداراتها وأموالها الخاصة لم تعد قادرة على النهوض بالقطاع ولا بدّ من إعادة الهيكلة. الكلام عن خسائر القطاع الناتجة عن محفظة القروض تبقى مهما بلغت هامشية لأن حبس الودائع للاستعمال الداخلي وارتفاع أسعار الموجودات العينية من سلع وعقارات كفيلة بتأمين مصادر تسديد للديون الصعبة او المتعثرة. إن الهم الأساسي للقطاع هو إظهار هيكلة مالية وإدارية تعطي الاطمئنان للأموال الجديدة الواردة وهنا لا بدّ من نظام رقابي بأسلوب جديد من لجنة الرقابة في مصرف لبنان.
الاقتصاد المنتج أمل ومرتجى. صحيح أن الفوائد المرتفعة تحدّ من الاستثمار المباشر أو التمويل المصرفي وتجعل من التوطيفات تتجه نحو الادوات النقدية والمالية لكن يجب ألا يغيب عن بال أحد أن العنصر الأول لتشجيع الاستثمارات في القطاعات المنتجة هو إيجاد مناخ للاستثمار يكون شرطه الأول الاستقرار السياسي والأمني والتشريعي. نحن نجزم أن غياب الاقتصاد المنتج لم يكن مرده ارتفاع الفائدة فقط ولم يكن بالإمكان رفع معدل الفائدة لو لم يكن هناك عجز في الموازنة وميزان المدفوعات. في ظل الأزمة الاهتمام يجب أن يصب في اتجاهين:
- تمويل المواد الأولية للصناعة مع تقديم أوجه الدعم كافة من الإعفاء أو تخفيف العبء الضريبي إلى دعم الطاقة والضمان الاجتماعي وكل ذلك لإيجاد صناعة قابلة للاستمرار والتصدير واستقطاب استثمارات مباشرة.
- السياحة وإعادة دورها في تدفق النقد الأجنبي مع الاهتمام خاصة بالاسعار واخلاقية التعامل وضرب بيد من حديد كل أنواع الاستغلال أو التعدي على الزائر مع تعميم ثقافة الاهتمام بالسائح وأهمية السياحة في مسيرة النهوض.
- نحن على ثقة إن أهمية لبنان السياحية أكبر من قدرته على استيعاب السائحين وهذا يفتح الباب واسعاً أمام استثمارات كبيرة في الفنادق والنوادي والمطاعم ولن يكون ذلك ممكناً من دون خطاب سياسي هادئ وصديق للعالم بأسره لأن لبنان بلد صغير غني بموقعه وطقسه وانسانه ليكون وجهة القادمين للسياحة الأثرية والتعليمية والاستشفائية والثقافية والترفيهية.
- إن إعادة النهوض تتطلب حتماً ضخ أموال جديدة، وهتا تكمن أهمية صندوق النقد الذي كما يعرفه العديدون لا يرى سبيلاً لدعم سعر الصرف إلا من خلال موازنة صحيحة وميزان مدفوعات ثابت وهو يرى أن لبنان ملزم بالإصلاحات ولديه معه تجارب عدة في وعود لم تنفذ.
- لا تقتصر أهمية الصندوق في المبالغ التي يقدمها بل في التقييم الذي ينشره حول التصنيف والسمعة والالتزام بمعايير السلامة والمتانة المالية والاقتصادية للبلد العضو في الصندوق والذي تعتمده الدول وبيوت المال الدولية في علاقاتها مع لبنان.
- الحاجة إلى التمويل لن تقتصر على القروض المصرفية بل إلى سوق مالية نشطة تتطلب الإسراع في إنشاء المنصة الالكترونية او العمل في ردهة البورصة عاجلاً، وستكون الودائع بالدولار اللبناني رساميل أولية لهيكلة المؤسسات الاقتصادية ودعم رساميلها من دون الانتقاص من أهمية الأموال الخارجية التي تبقى العامود الفقري للنهوض. الودائع التي تبحث عن مواطن توظيف واستثمار مثل التملك العقاري ستجد الاستثمار في المؤسسات الاقتصادية فرصة مؤاتية لحفظ أموالها من أي صعوبات مصرفية أو ضياع قيمتها الاقتصادية.