"التدابير المصرفية المؤقتة": غزارة عناوين وتقتير بالتفاصيل
"التدابير المصرفية المؤقتة": غزارة عناوين وتقتير بالتفاصيل
- نديم مخيبر
تسرّب أخيراً مشروع ما يسمّى بالتدابيرالمصرفية الإستثنائية المؤقّتة، وقد تراوحت صيغته بين إصداره بتعميم من حاكم مصرف لبنان(المركزي) بناءً على قانون تشريعي يمنح حاكم هذا المصرف الصلاحيات الأستثنائية لهذه الغاية، أو بناء على نصوص عامة أساسية واردة في قانون النقد والتسليف اللبناني يمكن بالتوسع حسب البعض في تفسيرها، بإعتبار على أنها تولي الحاكم المذكور مثل هذه الصلاحيات.
ويُستنتج من تصريحات المعنيين بإصدار هذه " التدابير" أن الجدل مستمرّ بشأن المرجع المعني بإصدار او إجازة إصدار مثل هذه التدابير، وأن المراجع المختلفة تتقاذف مسؤولية (ولا أقول صلاحية، علما أن المراجع في لبنان غالبا ما تتنازع على الصلاحيات) اتخاذ التدابير المذكورة، ونتفهّم هذا التقاذف نظراً لأن هذه التدابير غير شعبية بمجملها.
وبرأينا باختصار أن هذه التدابير غير داخلة ضمن صلاحيات حاكم المصرف المركزي، من جهة أولى نظراً لما تتضمنه من تقييد لحركة الرساميل والودائع وما تناقضه من قوانين نافذة ترعى العلاقات المصرفية؛ ومن جهة ثانية ومن وجهة منطقية، نظراً لأن الحكومة نفسها تحاذر مقاربة هذا الموضوع معتبرة أن صلاحية التصدي له تعود إلى مجلس النواب بموجب إصدار قانون (ونحن بالمناسبة من هذا الرأي نفسه)، فكيف لحاكم المصرف المركزي أن يعتبرها بعدئذ ضمن صلاحياته؟
مهما يكن من أمر، فغايتنا من هذا التعليق، ليس التوسع في البحث القانوني حول صلاحية إصدار هذه التدابير، بل بالأحرى، الإشارة بعد قراءة أوّلية لنص المشروع، الى الثغرات الكامنة في المشروع المسرّب ومحاولة الإضاءة عليها سواء لتفاديها، أو لتجنيب المتعاملين مع المصارف الإشكالات التي يمكن ان تنشأ عن تطبيقها، في علاقتهم مع المصارف التي ستَنْفذ من أي ثغرة فيها لممارسة استنسابيتها في التعامل تجاه عملائها.
هذا في الشكل .
أما في الأساس فسنسوق ملاحظاتنا على أساس إفتراض أن مثل هذه التدابير يجب ان تراعي مبادئ الشفافية والوضوح والإنصاف، شرطا لجدواها.
و سنعتمد في هذا التعليق الترتيب نفسه للمواضيع الذي اعتمده المشروع الآنف الذكر :
أولا: في ما سُمِّي ب "الأموال الجديدة"
حدّد المشروع مفهوم الاموال الجديدة بـ "التحاويل الواردة من الخارج والايداعات النقدية بالليرة اللبنانية او بالعملة الاجنبية التي تتلقّاها المصارف .... بعد تاريخ ١٧/١١/٢٠١٩"، و هذا التحديد واضح بعناصره.
ويضيف المشروع "أن استعمال الاموال الجديدة او التصرف بها يخضع لمشيئة صاحبها ..."، مشيراً في البند الرابع من المادة الأولى منه، إلى أن تبقى هذه الاموال خاضعة لمشيئة صاحبها حتى في حال تحويلها كليا او جزئيا من المصرف المتلقاة فيه أصلا الى مصرف آخر.
ونرى بادئ ذي بدء أنّ جملة "أن استعمال الأموال الجديدة او التصرف بها تبقى خاضعة لمشيئة صاحبها" بحاجة إلى توضيح:
- فهل يعني ذلك ان صاحب تلك الاموال له الحق في السحب نقداً من هذه الاموال بالعملة الأجنبية، دون الخضوع للسقوف التي قد يحددها كل مصرف استنسابياً على هواه، أو لعمولات زاجرة على السحب النقدي تردع صاحبها عن ممارسة حقّه بهذا السحب؟
- ثم، وفي أضعف الإيمان، هل يحق لصاحب اموال جديدة ناتجة عن ايداعات نقدية بالعملة الأجنبية، أن يسحب هذه الأموال نقدا وفقا لمشيئته في الوقت الذي يختاره (في حالة ابقائه حسابه تحت الطلب بطبيعة الحال)، من دون أن يخضع لتقنين زمني يفرضه المصرف؟
أما بالنسبة الى امكانية تحويل هذه الاموال كليّاً او جزئيّاً الى مصرف آخر عامل في لبنان مع احتفاظها بمزاياها ، فهو دون شك تدبير حكيم جدا نظريّا لانه يحرّر صاحب الاموال الجديدة من اي تعسّف يمارسه مصرفه عليه متسلّحا بحاجة العميل اليه للاستفادة من تلك المزايا، و لكن كي تصبح هذه الضمانة بالتحويل فعّالة عمليّا، يجب أن يُمنع المصرف المحوّل له من فرض اية قيود على هذا التحويل كفرض تجميد استعمال المبلغ المحوّل إليه لمدة معيّنة او غير ذلك من القيود التي تفرضها المصارف كشرط لقبول التحويل (أو تحصيل الشك للعميل) حاليا ؛ علما اننا نتفهّم في هذه الحالة (اي حالة نقل الاموال الجديدة من مصرف الى آخر) تردّد المصرف المحوّل اليه في قبولها ، طالما ان هذه الاموال الجديدة يكون قد استفاد منها المصرف الذي وردت اليه أولاً باستلامها لدى مراسله في الخارج او نقداً ، بينما المصرف المحوّلة اليه "الاموال الجديدة" لا يستفيد من ذلك إذا حُوّلت اليه داخليّا . ولتفادي هذه الاشكالية، نرى ان المشروع يجب ان يتضمن تدبيرا يُلزَم بموجبه المصرف الذي تلقّى الاموال الجديدة أصلاً ومباشرة، ان يحولها بناء لطلب صاحبها الى مصرف آخر بموجب تحويل الى المراسل الخارجي للمصرف المتلقّي، أو أن توضع آلية لدى المصرف المركزي تتيح للمصرف المتلقّي للحوالة بان تُقيّد له قيمتها في مطلق الاحوال لدى مراسله في الخارج.
ثانياً: العمليات داخل لبنان بواسطة التحاويل او الشيكات
تنص المادة الثالثة من "التدابير" ان العمليات داخل لبنان بواسطة التحاويل والشكات لا تخضع لأية قيود، كما تنص المادة السادسة منها انه لا يمكن قبض الشكات المحررة بالليرة أو بالعملات الأجنبية نقدا على شبابيك المصارف بل يتم دفعها في الحساب.
من البديهيات ألا تخضع التحاويل والشكات داخل لبنان لأية قيود، ولكن ما كان يجب ان تلحظه بصراحة ووضوح "التدابير"، هو مآل هذه الشكات والتحاويل لدى قيدها في حساب المستفيد منها في مصرفه. فقد ارتأت مصارف كثيرة أن هذا المستفيد لا يجوز له استعمال المبالغ الناتجة عن هذه العمليات إلا بعد مرور فترة طويلة (بالأشهر) على قيد العملية في الحساب، سواء بالسحب النقدي حتى المقنّن بأية عملة كانت، او باستعمال المبلغ المحوّل رصيداً لشكات او تحاويل اخرى يحتاج المستفيد المذكور لسحبها لصالح اشخاص ثالثين. إن هذه الممارسة غير المبررة، من شأنها أن تعيق تداول وسائل الدفع البديلة عن النقد بين المواطنين وتؤدي إلى اشتراط اي مقدم خدمة أو بضاعة، توفير المقابل نقدا سواء بالعملة اللبنانية او بالعملة الأجنبية، خصوصاً أنه تم منع قبض قيمة الشكات نقدا ولو كانت بالليرة اللبنانية.
ومن الضروري بالتالي، تسهيلا لتبادل تقديم الخدمات والبضائع، أن تشمل "التدابير" تحظيرا على المصارف المتلقّية للشيكات والتحاويل، اشتراط تجميد القيم الناتجة عنها والمقيدة لديها كشرط ملزم لقبول التحويل أو تحصيل الشك، كما من المفيد أن تتضمّن هذه التدابير، تعديلا لما ورد فيها من منع قبض الشكات نقدا، استثناء للشيكات المحررة بالليرة اللبنانية والتي لا تتجاوز قيمتها حدّا معيّنا (مليون ليرة لبنانية مثلا) مع تحديد حدٍّ اقصى عند الاقتضاء لقيمة الشكات بالليرة التي يمكن لصاحب الحساب اصدارها على حسابه شهريّا .
ثالثاً: السحوبات النقدية
تناول مشروع "التدابير" موضوع السحوبات النقدية بالليرة اللبنانية ولكنّه لم يتطرّق البتة في اي مادة منه لمسألة السحوبات بالعملة الأجنبية تخصيصاً، لا في معرض تكريسه خضوع "الاموال الجديدة " لإرادة صاحبها، ولا بمناسبة تحديده سقف شهري للسحوبات النقدية بالليرة اللبنانية. و كأنّا به يحاذر تناول هذا الموضوع قصداً، بل عمداً .
فإذا عطفنا هذا الموقف على واقع التعامل المصرفي حالياً بالنسبة لموضوع السحوبات النقدية بالعملة الأجنبية، فلا يمكننا إلا أن نلحظ رابطا خفيّاً بين الموقف والواقع المذكورين، ويحق لنا ان نستنتج بالتالي بعد ملاحظة التناقص المستمر والمتسارع للعملات الاجنبية النقدية التي توفّرها المصارف لعملائها، ان من أعدّ مشروع "التدابير"، كان بذهنه أن استمرارية توفير عملات اجنبية نقدية للمودعين قد بلغت نهاياتها، وأن لا حاجة بالتالي لتقرير اية تدابير في هذا الشأن. وما يعزّز قناعتنا هذه ان الموقف المعلن لحاكمية مصرف لبنان، هو ان المصارف اللبنانية غير ملزمة بتوفير عملات نقدية أجنبية لعملائها، بل يقتصر موجبها بهذا الشأن بتوفير العملة اللبنانية فقط.
خامساً: تسديد الاقساط او الدفعات المستحقة بالعملة الأجنبية
أوجبت التدابير على المصارف " قبول تسديد الاقساط والدفعات المستحقة بالعملة الاجنبية الناتجة عن قروض التجزئة بالليرة اللبنانية على اساس سعر الصرف الرسمي شرط ان لا يكون للعميل حساب بهذه العملة الاجنبية لدى المصرف المعني يمكن استعماله لتسديد هذه الاقساط او الدفعات".
وبالرغم من أن هذا التدبير جيّد، فإنه تكتنفه بعض الألغام:
- فماذا يُعتبر، من جهة أولى، حسابا لدى المصرف "يمكن استعماله لتسديد الاقساط ": هل يمكن اعتبار الحساب لأجل، مثلا، ممكن الاستعمال لهذه الغاية، أو هل أن استعمال مثل هذا الحساب لهذه الغاية خاضع لموافقة مزدوجة من المصرف والعميل، أم أن موافقة المصرف لإستيفاء كل قسط يستحق من الوديعة المُجمّدة للمدة المتفق عليها، كافٍ في هذا الشأن؟
- ثم أنه في حالة كون الحساب تحت الطلب، هل يمكن للمصرف منع العميل من نقله الى مصرف آخر لتفادي إقتطاع الأقساط التي ستستحق مستقبلاً منه؟ وفي سيناريو آخر وفي حال اقتطع الصرف الاقساط المئتحقة من هذا الحساب بالعملة الاجنبية نفسها للقسط، هل يحق للمصرف منع العميل عند استحقاق وديعة لأجل، من تحويل رصيد هذه الوديعة الى مصرف آخر (في حال لم يكن هذا الحساب مخصص أصلا، بطبيعة الحال، كضمانة للدين) بذريعة استيفاء الاقساط التي ستستحق مستقبلا بنفس عملة الاقساط؟
- وأخيراً، ألم يكن من الأفضل تحقيقاً للمساواة بين جميع المدينين، تقرير استفادتهم جميعا من هذا التدبير، بغض النظر عن وجود أو عدم وجود حساب بالعملة الاجنبية نفسها لدى المصرف نفسه الذي يطرح الإشكالات المتقدم ذكرها، وبدلا من التفريق بين قروض التجزئة والقروض الاخرى لتطبيق التدبير، اعتماد التدبير المذكور لجميع صغار المدينين من خلال تطبيقه على مبلغ اقصى لكل دين، مهما كانت طبيعته؟
الأكثر قراءة
-
المركزي الصيني: 98.5 مليار دولار تسهيلات إقراض متوسط الاجل
-
الخزانة الأميركية تعتزم بيع سندات طويلة الأجل بـ 183 مليار دولار الأسبوع المقبل
-
"جلف كابيتال" قوة استثمارية مؤثرة في الخليج وآسيا
-
ماذا تتضمن نشرة الإحصاءات الزراعية في السعودية لعام 2023؟
-
قطر: شراكة بين وزارة الاتصالات و"ستارتب جرايندر" لتعزيز الابتكار وريادة الأعمال